نصر أبوزيد أزمة الفكر الديني المعاصر (3) من الحجاب الى النقاب بجريدة الأوان

20 04 2010

من الحجاب إلى النقاب

 الثلاثاء 20 ابريل 2010

بقلم: نصر حامد أبو زيد  

شارك هذه الصفحة:


أثيرت في مصر مشكلة “الحجاب” في سياق قرار الجمهورية الفرنسية بإصدار قانون يحرّم ارتداء الرموز الدينية في المدارس. وهذا يؤكّد مرّة أخرى علاقة الخارج والداخل في عالم زالت فيه الحدود وارتفعت العوائق، لا أعني الحدود السياسية والجغرافية، ولا العوائق القانونية، بقدر ما أعنى عوائق الاتصال. أراد شيخ الأزهر السابق – الشيخ الطنطاوي رحمه الله- أن يرضي حكومة فرنسا فقرّر أن من واجب المسلمين أن يطيعوا وليّ الأمر في بلاد المهجر، وهكذا ظنّ أنّه سهّل الأمر. لكنّه استدار إلى المرأة التي تعيش في بلد مسلم – يقصد أغلبيته مسلمة – فقرّر في حسم أنّ الحجاب بالنسبة لهذه المرأة “فرض دينيّ” تحاسب عليه إن فرّطت فيه. هكذا في نزعة ردّ فعل غير مسئولة صار الحجاب “فريضة”، وصارت جميع غير المحجّبات – حتى في تركيا التي تمنعه في الجامعة، وفي تونس التي تضع عليه القيود – مُفَرِّطة في فرض دينيّ. ليس من الصعب أن يبني المتشدّدون على أساس هذا التصريح من شيخ المؤسسة الدينية أنّ عدم ارتداء الحجاب يماثل ترك الصلاة وكلاهما والعياذ بالله كفر.

أيّ تعليق على مسألة الحجاب أو مناقشة لمدى حجّية الأدلّة على اعتباره “فرضا” تثير عواصف هوجاء في المجتمع المصري. عبارة قالها وزير الثقافة “فاروق حسني” شغلت مجلس الشعب المصري – مصر التي يتحمّل شعبها أكواما وأحمالا من المشكلات التي يجب أن تشغل أعضاء المجلس الموقّر – أياما من الجدل والنقاش حتى سحب الرجل عبارته وخطَّأ نفسه.

وأثيرت مسألة النقاب مجدّدا، بسبب شيخ الأزهر السابق أيضا حيث كان في زيارة لإحدى مدارس الفتيات التابعة للأزهر، وطلب من إحدى الفتيات المتنقبات أن تنزع النقاب، فاستثير الإسلاميون ضدّ الأزهر وشيخه. فمن قائل إنّ مسألة النقاب مسألة حرية شخصية، ومن ذاهب إلى أنّها “عادة وليست عبادة” – لاحظ التصنيف – ومن قائل إنّها واجب شرعيّ. وصل الأمر إلى القضاء بسبب قرار رؤساء الجامعات بمنع الطالبات المنقبات من دخول المدن الجامعية فأصدرت محكمة القضاء الإداري حكمها بتمكين الطالبات من الدخول واعتبر قرار رؤساء الجامعات مخالفا لقانون الحريات الشخصية.

ما حدث مع وزير الثقافة بسبب الحجاب نفس الأمر يتكرّر الآن مع المستشار “تهاني الجبالي” – مستشار في المحكمة الدستورية العليا – التي نعت على المصريين التمسّك بالشكليات – ذكرت مسألة تغطية جسد المرأة نموذجا – على حساب الجوهر في الإسلام. رفع عليها أحد المحامين المتشددين دعوى قضائية يطالب بفصلها من موقعها. أغلب الظنّ – وبعض الظنّ إثم لا ضرر منه – أنّ الرجل كان مستاء من مجرد تعيين امرأة في المحكمة الدستورية العليا، وكان يتحيّن الفرصة للنيل منها.

النظر في كلّ المبرّرات الدينية، وغير الدينية، لتغطية المرأة وحجبها عن الوجود في الفضاء الاجتماعي العامّ، يفضي إلى نتيجة يجب أن تزعجنا جميعا: أنّ الهدف الأسمى هو “حماية الرجل” من فتنة المرأة، حمايته من غواية النظر إليها. لا أحد يتحدّث عن حماية المرأة من فتنة الرجل ويطالب الرجال بستر فتنتهم. تبدو غواية الرجل للمرأة – في الوعي العام – أمر مقبولا، إنّه الطبيعي. فتنة المرأة هي غواية الشيطان. هكذا يعود الوعي العامّ إلى أسطورة الخلق التوراتية، حيث أغوت حوّاء أدم؛ فارتكب معصية الأكل من الشجرة المحرّمة، فطُرِد وهي من الجنّة. القصة التوراتية تقول: إنّ المرأة هي مدخل الشيطان إلى الرجل، وهكذا يصبح الرجل هو “الإنسان” والمرأة بعضه الأعوج، الذي يحتاج طول الوقت إلى تقويم. كلّ هذه العناصر التوراتية لا وجود لها في القرآن نصا، وإنما دخلت نطاق الفكر الديني عبر كتب التفسير التي استعانت بهذه التفاصيل لشرح ما لم يذكره القرآن.

وحده محمد عبده في، أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن الماضي، تنبّه لهذه المشكلات في الفكر الدينيّ. والفكر الديني الآن بتراجعه إلى ما قبل لحظة محمد عبده يسحب المجتمع إلى الوراء. لكن علينا ألا ننسى أنّ المجتمع، في الأصل، هو الذي سحب الفكر الديني إلى الخلف، ثم استسلم له ليقوده. من هنا فإنّ السبيل الوحيد لمقاومة أيّ نهج، أو نمط جديد من التفكير، هو الصياح ورفع يافطة “الثوابت” و”الفكر الغربي”، و”المناهج المستوردة”، كأن ما أنتجه الأسلاف لا يقبل الفحص والنقد والردّ.

 وقضايا المرأة في الفكر الإسلامي بصفة عامة تثار في مصر أوّلا، ثم ينتقل الجدل الصاخب منها إلى المجتمعات العربية؟ في حدود علمي إنّ منظومة القضايا المتعلّقة بوضع المرأة ومكانتها في المجتمع – وقضية الحجاب أو النقاب واحدة من هذه المنظومة – هي “كعب أخيل” في العالم الإسلامي طولا وعرضا. لكن لأنّ المجتمع المصري كان قد تجاوز هذه المشكلات وتخطّاها، منذ بدايات القرن العشرين، فإنّ حالة الارتداد التي يمرّ بها، منذ عقود تلفت الأنظار إليه. ماذا حدث للمصريين؟ تساؤل طرحه المفكّر “جلال احمد أمين” منذ فترة، وما زال يُحْتاج النظرُ فيه. للإجابة على هذا التساؤل ينبغي عدم استبعاد التأثير الخليجي – السعودي الوهّابي بصفة خاصة- على وعي المصريين، الذين تزايد عدد مهاجريهم بحثا عن فرص عمل أفضل، منذ بداية السبعينات من القرن الماضي.

الإسلام الخليجي، هو بشكل أو بآخر، إسلام الجزيرة العربية، وهو أشدّ صيغ الإسلام تشدّدا وتزمّتا. إذا كان الإسلام الأوّل هو إسلام الحجاز، فالإسلام السعودي/الخليجي هو إسلام نجد القرن الثامن عشر. وشتّان بين إسلام الثقافة العالية، في القرن السابع – ثقافة التجّار والمدن – وإسلام بداوة “نجد”، المتمثل في “الوهابية”، التي لم تتطوّر في مقولاتها الأساسية خطوة واحدة منذ مؤسّسها “محمد بن عبد الوهاب”. بل إنّ المعارضة السياسية/الدينية للنظام السعودي تكفَّر حكام السعودية، لانحرافهم عن الدين الحقّ، الذي أسّسه ابن عبد الوهاب. هذا هو الإسلام الذي غزا، بقوة المال، وعي أبناء المجتمعات الأخرى، وعلى رأسها مغتربي المجتمع المصري.

بالإضافة إلى هذا العامل، ثمّة عاملان جوهريّان مكّنا هذا العامل من أن يلاقي أرضا خصبة: أحدهما التحوّل السياسي الاجتماعي، الذي أحدثه الرئيس السادات في بنية الدولة، منذ تولّيه سلطة الحكم في أكتوبر 1970، أعني الانتقال من نظام “رأسمالية الدولة” إلى نظام “الاقتصاد الحرّ”، بشكل عشوائيّ. هذا الانتقال العشوائيّ – الذي أطلق عليه أحد الإعلاميين النابهين، الراحل “أحمد بهاء الدين” : الانفتاح السداح المداح – كان له، وما يزال، تأثيره الفادح على الطبقات العاملة المصرية؛ فاختفت الطبقة الوسطى تدريجيا لحساب انقسام طبقيّ حادّ بين أغنياء سفهاء وفقراء معدمين. صار المجتمع المصري، الذي كان مجتمع التكافل الاجتماعي، تحت مظلة الدولة الاشتراكية، مجتمعَ الصدقة والبرّ والإحسان، تحت رحمة رجال الأعمال. من المهمّ هنا أن نؤكّد أنّ هذا الوضع أدّى إلى تحالف بين طبقة رجال الأعمال من جهة، وبين رجال الحكم وفصيل من المثقفين والأدباء والفنانين من جهة أخري. فضيحة “شركات توظيف الأموال” في الثمانينات كشفت انضمام المؤسسة الدينية الرسمية إلى هذا التحالف، الذي ضمّ أيضا “الإخوان المسلمين”، أكبر المدافعين عن رأسمالية السوق الحرّة. هذا التحوّل في الخطاب الديني المصريّ تعاملت معه تحليلا ونقدا في “نقد الخطاب الديني”. انتهي هذا التحالف إلى أن أصبح زواجا كاثوليكيا بين المال والسياسة والفكر فصار رجال الحكم هم أنفسهم رجال الأعمال.

أما العامل الثاني – الذي أثّر على وضع المرأة في المجتمع المصري بشكل فادح – وهو الأثر الأكبر للعامل الأول، فيتعلّق بأزمة سوق العمل، وتزايد معدلات البطالة في مصر، خاصة بعد أن تزايد اعتماد سوق العمل في الخليج على العمالة الآسيوية الأرخص. غنيّ عن البيان أنّ هذا الانفتاح الاقتصادي – الانفتاح الاستهلاكي بامتياز – عمّق من مأساة أزمة البطالة، بكلّ ما صاحبه من مظاهر الترف المبالغ فيه. لعلّ مثال حفل زفاف إحدى بنات الرئيس السادات لأحد أنجال أكبر رجل أعمال في مصر يكفي للتدليل على هذه الظاهرة، حيث تمّ بثّ الحفل من خلال قناة التليفزيون الحكومية ورأى المصريون جنيهات الذهب ترشّ على العروسين بدلا من حبوب الأرزّ أو القمح – أو الورود – التي تعود المصريون رشها رمزا لأمنيات الزواج الخصب السعيد.

في نقاشات في مجلس الشعب المصري حول البطالة كان الاقتراح هو إعطاء النساء العاملات إجازة بنصف أجر للتفرّغ لتربية الأطفال ورعاية الأسرة، أهم الأدوار المنوطة بالمرأة، حسب الخطاب الديني. بعبارة أخرى، لم تناقش الأزمة بوصفها أزمة اقتصاد استهلاكيّ يحتاج إلى ترشيد وإعادة هيكلة ليتحوّل إلى اقتصاد إنتاجيّ، بل صارت الأزمة هي عمل المرأة الذي يقلّل من فرص عمل الرجال. هكذا بدأ تحويل كلّ المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلى قضايا تحلّها العودة إلى قيم الدين وعلى رأسها عودة المرأة إلى البيت. من هنا بدأ الانحدار وتدريجيا تطوّر الخطاب، المعادي للمرأة، من الدعوة إلى عودتها إلى البيت – الذي يعني استبعادها من الوجود في الفضاء العامّ – إلى الدعوة إلى تغطية شعرها، ثمّ تغطية جسدها كله، إذا كان ولا بدّ من وجودها في الفضاء العامّ للضرورة. كان هذا البعد هو موضوع التحليل في كتاب “المرأة في خطاب الأزمة”، الذي نشر في بداية التسعينات في مصر، ثم صدرت منه طبعة مزيدة منقّحة بعنوان “دوائر الخوف: قراءة في خطاب الأزمة” عن المركز الثقافي العربي (بيروت والدار البيضاء). وخطاب الأزمة موضوع التحليل يتضمّن الخطاب الدينيّ وغيره من الخطابات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تعزف نفس نغمته ولكن بآلات أخرى.

 


إجراءات

Information

5 تعليقات

20 04 2010
بلال مؤمن

استاذنا الكريم دكتور نصر لطالما افترضت أن دعوات أمثالكم ضرورية لتقويم الخطاب الديني العقيم في العالم الإسلامي، ولكني اتسائل أيضا إلى أي حد بلغت أهمية حجاب المرأة المسلمة لديكم ، والى أي حد تعتبرون الحجاب معوقا اساسي لمشروعات النهضة والحداثة أنتم في هذا أيضا انما تعبثون بالعقول الخاوية غير المصقولة من المتابعين للقل الثقافي كما يعبث الاخرون رجال الدين بعقول العامة والبسطاء ولا أحسب الأن على خلاف ماكنت اعتقد قديما أن خيرنا وخير أمتنا انما يكمن في الاصغاء لأمثالكم

تلميذ مخلص

21 04 2010
عبده الحاج

في رأي الأستاذ نصر هل هناك معايير وضوابط تحديدية للشكليات والجوهريات في الشريعة؟ لان هناك بعض الأمور تعتبر من الشكليات وبعضها من الجوهريات. وماهي الطريقة المثلى في رأيكم في الحوار والمناقشة مع الرأي الاخر، خاصة وأن تأثير الحركات السلفية وخصوصا الوهابية منتشر في مجتمعات دول جنوب شرق آسيا حيث أعيش.
تلميذكم من خلال كتبكم

21 04 2010
خادم الرواق

أستاذ بلال مؤمن
تحية طيبة في الحقيقة لم أفهم سؤالك لدكتور نصر هل ما تقوله ان مقاله عن الحجاب والنقاب يجعلك تعيد النظر فيما تصورته عنه وأنه يفعل ما يفعله فقهاء الدين معادي الحداثة لو سمحت وضح سؤالك
جمال عمر
خادم الرواق

21 04 2010
خادم الرواق

أستاذ عبده الحاج
تحية طيبة
القرآن نزل على النبي محمد على مدار سنوات يتعامل مع واقع ووقائع فيتعامل مع عقل العربي في الحجاز فنصوص القرآن تعكس هذا الواقع فمثلا العرب تجار فتجد التشبيهات الكثيرة التي يسردها القرآن علن البيع والشراء مثل ” إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم” لكن في نفس الوقت القرآن يعبر برسالة بشرية ليست محصورة في عرب الحجاز في القرن السابع
والجدال طوال تاريخ تعامل المسلمين مع فهم وتفسيره بين هذين الطرفين
ما هو تاريخي خاص بموقف وتاريخ الحدث وبين ما هو لكل زمان ومكان وأنا أفضل هذا التقسيم عن تقسيم ماهو جوهري وثانوي
أين بين ما هو مرتبط بعصر ظهور القرآن وبين ما هو له مغزى في كل العصور
لا أعرف ماذا ترى في ذلك وللحديث بقية
والله أعلم
جمال عمر
خادم رواق نصر أبوزيد

15 06 2010
عبد الرحمن الميلي

تعجبني كلمة قالها الشَّيخ شلتوت رحمه الله تعالى:
إلحاد الغرب إلحاد فكر وعقل، وإلحاد الشَّرق إلحاد بطن وفرج.

أضف تعليق