الكتابة عن كاتب جيد أمر صعب. وإبراهيم أصلان في مقدمة المقدمة من جيل الكتاب التالي لجيل الرواد حسب شهادة نجيب محفوظ عنه في تقديمه لتوفيق الحكيم و تعريفه به . أحب أن أبدأ ب “توجيه” من أصلان لقراءه عن الطريقة الفنية للكتابة عن الأحداث الكبيرة .. يقول : “اذا حدث و قرأت قصصا لا تتعرض بشكل مباشر لأي من الأحداث الكبيرة التي نعيشها فلا تظن أن هذه القصص المعنية بصغائر الأمور كانت بمنأي عن هذه الأحداث الكبيرة أبدا ….. لذلك أرجوك اذا ما صادفك رجلا في قصة أو رواية و قد جلس صامتا أو طفق يضحك من دون سبب أو رأيت أحدا يمشي في الشارع و هو يتبادل الكلام مع نفسه أو لمحت امرأة تزينت و وقفت أمام المرآة لا تعرف ماذا تفعل بنفسها .. اذا صادفتك مثل هذه التفاصيل العابرة فلا تظنها غير ذات صلة بهذه المسائل الكبيرة. بعد ذلك يلخص قصة قصيرة من الأدب الألماني عن زوج من الألمان العواجيز .. يتسلل الرجل من الفراش ليلا الي المطبخ و يختلس قطعة من الخبز و تقوم الزوجة وراءه و تتظاهر بعدم ملاحظة ما فعل و يعودان الي الفراش و عندما يبدأ الرجل بمضغ قطعة الخبز في هدوء تمثل امرأته أنها نائمة حتي تنعس فعلا علي وتيرة المضغ البطيئة . و في اليوم التالي تتظاهر بالشبع بعد أكل شريحتين من الخبز و تدفع بالثالثة الي رجلها الذي يقبل كرمها بعد قليل من الممانعة و التردد. القصة لم تكن الا عن الحرب مع أن الحرب لم تذكر بكلمة واحدة في سياقها. ابراهيم أصلان لن يتعرض في سياق سرد حكايته للمسائل و الأحداث الكبيرة أو الشخصيات البطولية الا عرضا و لماما . كل حكاياته و أغلبها حقيقي الي حد بعيد و بعضها حقيقي تماما عن موظفين و باعة و سواقين و ستات بيوت و تحدث في شوارع المدن و القري و علي مقاهيها و داخل منازلها أو في مكاتب مصالحها. هذه قصة من الحقيقية تماما وثقها موظف البوسطة الذي أصبح كاتبي المفضل أحب أن أختم بها هذه المقدمة عن شخصه و أدبه.
القصة عنوانها رسالة الي الله فعلا من مجموعة “شئ من هذا القبيل” في تقديمها يشرح كيف صمم علي حيازة تلك الرسالة التي سمع زملاءه يتندرون عليها ثم نص الرسالة التالي :
كتابة المظروف من الوجه
البريد الجوي
يصل و يسلم الي الأستاذ ربنا العزيز الكريم
كتابة المظروف من الخلف
الراسل مصطفي عبد الوهاب
عنوان الراسل
بلاق شركس حارة المصري رقم 22
نص الخطاب الصفحة الأمامية
بسم الله الرحمن الرحيم
ربنا العزيز بعد السلام عليكم و رحمة الله و بركاته : أنا مصطفي عبد الوهاب عبد العليم من بني مزار مديرية المنيا أنا كنت بشتغل في بلدي شغله و بعدين رفدونا كلنا لي ( ليه ) رفدونا اللي قال لي يا مصطفي اذهب علي مصر و انت تشتغل في أي شغلة فحضرت مصر أنا في مصر أديلي 20 يوم و انا بابحث عن شغل و لم ألقا أي شغلة تناسبني فأرجوك انت تبعت لي أي شغله من أمامك و أنا أشكرك.
أنا مصطفي عبد الوهاب .
عنوان مصر هو بلاق شركس. حارة المصري نمرة 22
أرجوك الرد حالا حالا حالا ( ثم كلمة مبهمة )
الصفحة الخلفية
الرد حالا حالا حالا
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
-2-
اتفقنا علي ان الكتابة عن كاتب كبير أمر مش سهل و ده اللي بيخليني علي يقين ان ابراهيم أصلان كاتب عملاق لأني من اول امبارح مش عارف أكتب أيه عنه رغم توافر معلوماتي عنه و قراءتي ل 5 من كتبه في الأسبوع الأخير. بعتذر مقدما للي مش هيعجبهم البوست ده عنه و حجتي ان المتعة هي قراءة أصلان نفسه مش في القراءة عنه فما هذا الا محاولة للحث أو الاستفزاز للبحث عن كتبه.
ابراهيم أصلان من مواليد شبشير الحصة – غربية 1935 و رغم ان فرق السن بينه و بيني مقارب ل 20 سنة بحسه صاحبي و بيتهيالي اني لو كنت قابلته في الحياة كنا هنتقارب و نرفع الكلفة . و كان عندي فرصتين فعليتين لمقابلته من واقع الاماكن اللي بيوصفها في قصصه اللي معظمها حقيقي و أغلب حوادثها وقعت بالفعل . ستي و جدي كانوا ساكنين في امبابة بعد ما عزلوا من السبتية في أوائل الستينات و اشتروا هناك بتحويشة العمر حتة أرض و بنوها بيت لعله كان قريب من فضل الله عثمان الخالد ب فضل ابراهيم أصلان. تيتة ماتت في مراهقتي و زياراتي لامبابة انقطعت بوفاتها. الفرصة الأكبر كانت في العتبة حيث كان مقري التاني محل أبويا اللي كنت بأقضي فيه معظم أوقات فراغي و أجازاتي بدءأ من أواسط الستينات وان.ّ..ّ……ّ لسه تلميذ في ابتدائي لغاية ما خلصت الجامعة . المحل علي ناصية مقابل من جهة لضهر مبني البوستة ( العمومية ) مقر عمل أصلان لفترة ما في الستينات برضه و من جهة تانية لقهوة عبده السروجي اللي قال الأديب انه كان بيقعد عليها مع زملاء العمل في قصة سماها غريب الدار علي اسم أشهر أغاني المطرب المعلم صاحب القهوة. او ممكن برضه كنا نخبط في بعض و احنا مش واخدين بالنا علي سور الأزبكية بسبب انهماكنا في تصفح بعض الكتب. ما علينا ماقابلتوش فصارت صحوبية من جانب واحد.
موظف البوستة اللي تنقل في أعمال بريدية مختلفة كان عاوز يكون كاتب و كاتب قصة قصيرة تحديدا تأثرا ب أنطون تشيكوف و ابتدا ينشر بعض قصصه في بعض المجلات الثقافية و ابتدا الأدباء الكبار يسمعوا عنه و ممكن نقول ان نجيب محفوظ اكتشفه و زكاه لمنحة تفرغ فاضطر يكتب رواية بدل القصص القصيرة التي لا تؤهل للحصول علي المنحة .. كتب “مالك الحزين” اللي تحولت بعد كده بزمان لفيلم “الكيت كات”. أشهر كتب ابراهيم أصلان الي جانب مالك الحزين “وردية ليل” و “خلوة الغلبان” و “حكايات فضل الله عثمان”.. أجملها في نظري “صديق قديم جدا ” رأيي انها بتمثل مع “شئ من هذا القبيل” تمام نضجه في المجموعتين دول بلاقي الفنان صانع الدهشة و البهجة اللي متأكد ان ابراهيم أصلان كانه في الحياة طول الوقت لكن مقدرش يطلعه في قصصه الأولي “بحيرة المساء” ” و ردية ليل ” المحملتان بالحزن و الشجن مثلا . مش بس الدهشة و البهجة و روح السخرية الراقية جدا .. انما برضه الأسلوب الفريد اللي اقترب جدا من الحكي بلغة الكلام الدارج لأبطاله البسطاء .. أدب بسيط و متميز .. مكتوب من كاتب فنان بيعبر عن روح البيئة اللي هو طالع منها. في الختام هأسوق بعض اقتباسات منه بدون مراعاة للسياق كمحاولة لجرجرة رجل من لم يقرأ بعد لابراهيم أصلان :
حدثني و هو بالشبشب و الجلباب و قال : “كان نفسي أقعد معاك شوية لكن مش فاضي”
أنا لم أكن أريده أن يقعد معي . أنا كنت أريد أن أنام لذلك هززت رأسي و استدرت كي أعود الي شقتي لكنه لحقني و قال
“انت عارف طبعا الأستاذ عبد الظاهر “
خيل الي اني أعرف الأستاذ عبد الظاهر و وجدتني أقول “آه”
من قصة “حدثني قال.
… كنا نتحدث عن مسلسل طوله حوالي 400 أو 500 حلقة كتبتها أنا و مازلت أستكملها و أن الرقابة كانت اعترضت عليها و مجدي كان يطمئنني : “ولا يهمك”
و أنا أقول : “ازاي ؟”
“كمل انت بس و لما المسلسل يعرض مش هنخلي الرقابة تتفرج عليه”
” لأ يا راجل”
“زي مابأقولك كده”
“طيب افرض اتفرجوا ؟”
“يا عم ابراهيم انت راجل كبير و فاهم. و بعدين احنا معانا علي بدرخان و محمد هاشم و معانا فؤاد نجم و خيري بشارة و دول بعد ما يتفرجوا هيقولوا احنا ماشوفناش حاجة”
من قصة ” أحلام صيفية”
كان حدثني عن مسألة الفساد الذي استشري فلما رأي ما أنا عليه من أسي :
“يا سيدي الفاضل هذا أمر يمكن تفهمه نحن في الأول و الآخر مجرد بشر”
و تركني … و انصرف . و أنا فكرت في الكلام و أدركت : بما أن الفساد أحد مظاهر ضعفنا البشري فان علينا أن نكون حميرا حتي لا نكون فاسدين.
من قصة “فيما يري الجالس “
… و التقينا في حديقة المكتب و وقفنا نتكلم علي جنب . أثناء ما كنا نضحك فوجئت بمن يدفعني في مرفقي من الخلف و عندما استدرت رأيت حمار سليمان و هو يباعد ما بين شفتيه و ينظر الي بعينين جميلتين و قد ارتسمت علي وجهه المرفوع ابتسامة لا شك فيها … و قلت : “أيه الحكاية دي هو الحمار بيضحك ولا أيه ؟”
و سليمان قال : ” طبعا . الحمير مش زي بعضها “
من “كان ذلك هو الأمر”
-3-
المعلوم من أبي خليل بالضرورة
العنوان استفزازي بالقصد مناكفة في واحد صاحبنا لا داعي لذكر ان أول حرف من اسمه جمال عمر أبو كريم .. يقرا هو وردية ليل و عصافير النيل و شئ من هذا القبيل و يستمخ و يدبس القارئ المبتدئ المسكين في بحيرة المساء و مش بعيد يتنيها ب يوسف و الرداء و يتفرج عليه و هو محتاس و واقع في حيص بيص و بيسأل نفسه : هو ده ابراهيم أصلان اللي طالعين بيه سابع سما ؟ ما عادي خالص أهو و كمان غامض و كئيب .. ولا يمكن أنا اللي حمار و مبفهمش في الأدب الراقي ؟ لست واحدك يا عزيزي القارئ المبتدئ ( ببحيرة المساء ) و خد الكلام ده من لسان عم ابراهيم و قلمه و معذرة اني مش هاكتبه بنصه الأصلي ولا حتي هأقدر أحدد بدقة هو كاتبه فين انما لربما و أرجح الظن في شئ من هذا القبيل و مش هفتح 10 كتب pdf و مقداميش ولا ورقة أصلانية و هكتب فقط من الذاكرة التعبانة .. بيقول ان واحد ذاكره بالاسم من الناس اللي لها باع في مجال الأدب قابله مرة و قال له : علي فكرة أنا قريت كتابك … و مفهمتش أي حاجة ! و انه مكانش عارف يتصرف ازاي في موقف زي ده لكنه تصرف في النهاية علي أي حال .. فياريت اللي قرا حاجة لمولانا و مفهمش مايزعلش ولا ياخد في باله و اللي لسه ماقراش مايبتديش بالبحيرة ولا بأبي حجاج و الرداء و مايتبعش منهج القراءة الكرونولجي المستقيم لكن يبتدي من ورا لقدام أو من النص و يفرع لأن المعلوم عموما بالضرورة من أي حاجة ان الحاجة مختلفة و متغيره و عمرها ما كانت ثابتة حتي لو كانت جماد مش كيان له حيويته أو مرتبط بحياة البشر .. أما المعلوم خصوصا بالضرورة من أدب ابراهيم اصلان انه في مبتداه بيفكرني ( أنا شخصيا مش أي حد تاني ) ب صنع الله ابراهيم و بعد كده بيفكرني ب محمد عفيفي و الملحوظة دي خاصة بمن يعرفون صنع الله و عفيفي .. و هنا يلزم تنويه للعارفين و المشعارفين هو اني جبت كتابين لصنع الله كملت واحد منهم بالعافية و مقدرتش أكمل التاني و معرفش راحوا فين أما حبيبي محمد عفيفي فمازلت محتفظ بكتير من كتبه و قريتها أكتر من مرة و لما يصدف اني اكون بدور علي كتاب تاني و يقع في ايدي كتاب لعفيفي مقدرش أسيبه قبل ما اعيد قراية صفحتين تلاتة قول فصلين تلاتة منه. بس برضه فيه فرق نقدر نقول انه جوهري بين عفيفي و أصلان فالأول فيلسوف حرفوش يدعو لعدم أخد الحياة بجدية و يبدو انه فهمها بدري و ساعدته ظروفه و التاني فيلسوف متحرفش بحكم ظروفه ماكتفاش لآخر نفس في صدره و آخر قطره في قلمه بما فهمه بعيونه المفتوحة و عقله الفاحص من الحياة لكن حاول يوصل لفهم اعمق بالغوص ورا تفاصيلها . و يلزم برضه تنويه علي التنويه هو ان رأيي في صنع الله ابراهيم ( يجب أن ) لا ينقص من قدره و خصوصا لو تعلمون ان يوسف ادريس قال عنه انه خليفته في الملاعب .. آسف قصدي في المكاتب مع ضرورة التنبيه علي ان د. ادريس داهية مكار أريب معتز و معتد بنفسه و بأدبه و كان يري نفسه أولي من نجيب محفوظ ب نوبل و ما بيحبش حد يسرق الجو و الشو منه. و رحمة الله و رأفة الطبيعة علي الاموات و الأحياء.
-4-
“عصافير النيل” جوهرة التاج
أكمل أعمال ابراهيم أصلان .. هي رواية كل شئ .. خلاصة التجربة و محصلة الاستنتاجات .. دليل التمكن من حرفة الكتابة و علامة صفاء موهبة فن تشكيل التحف بالكلمات و لهذا أهدي الجواهرجي أثمن ما صاغ الي أغلي الأحباب .. نص الأهداء القصير : الي الولدين : “هشام ” و ” شادي “.
حكاية عائلة ريفية تستقر في ضاحية عشوائية من ضواحي الحاضرة فتأخذ في التطبع بطباع المدينة حتي يكاد ينقطع كل ما يربطها بالريف حتي ملكهم من الأرض الزراعية أصبحوا لا يعرفون عنه شيئا . أو من منظور أبعد يتيح رؤية أوسع حكاية ضياع بلد ب “توهان” أهلها.
معظم ما نقرأه في رواية عصافير النيل موجود في قصص أصلان القصيرة الأخري بالتشابه و أحيانا بالتعيين . فن أصلان لم يكن موضع شك أو تقليل بدون هذه الرواية و لكنها وحدها تكفي لمعرفة قدره . ابراهيم أصلان كما سبق القول لا يحب طرح المسائل الكبيرة الا من خلال المشاهد الصغيرة لأنه يكتب رسائله بالأساس الي الانسان البسيط الذي لا تتيح له ظروف هموم المعيشة الا القليل من الوقت و الثقافة ليستوعب المسائل الكبيرة في عروض متفلسفة طويلة و لهذا حدد منذ البداية طريقه الأدبي ككاتب قصة قصيرة و لكن يأتي وقت يشعر فيه المثقف و الأديب الذي صار كبيرا بالفعل – بلا سعي منه بل أستطيع القول ضد رغبته – بضرورة ارسال رسالة طويلة الي من يهمه الأمر و هنا يتحتم كتابة رواية . اصلان لم يكتب هذا العمل الجميل ليستعرض موهبته و قدراته بل كتبه اضطرارا لأن اسلوب البرقيات القصيرة لن يكون كافيا لشرح الأمر . في رواية كل شئ يجد القارئ كل ما يخطر علي باله عبورا من الملهاة الي المأساة مرورا بالتاريخ و السياسة و الجنس و الجريمة بلا تكلف أو افتعال أو اقحام بل بسلاسة لا أذكر أني رأيت لها نظيرا عند أديب مصري أو عربي أو عالمي علي كثرة ما قرأت من الروايات الجيدة .. هذا علي المستوي البسيط السردي . أما علي مستوي الترميز و التشفير فسيجد غواصو الأعماق كنزا من اللآلئ يفضح مخابئها بريق لا تخطئه العيون . عنوان الرواية نفسه يخبر من لم يقرأها بما ينتظره علي صفحاتها .. هو عن شاب حديث النزوح من القرية الي المدينة يذهب لصيد السمك من نيل امبابة بسنارة مبالغ في طولها فيصطاد دون أن يلحظ أو يلاحظ المتفرجون عصفورة من الهواء و يحسبون انها كانت غائصة في مياه النيل.
اخترت لكم مشهدا واحدا من الرواية بالغ الطرافة و الصراحة التي قد يعتبرها البعض قلة أدب و وقاحة أما أنا فأقدر الأدب الذي يكشف الحياة كما هي و لا يزورها بالمداراة و التجميل . ثم مشهد الختام .. عساي أكون نجحت في جذب ضيوف جدد الي موائد مولانا ابراهيم أصلان .
“مدت دلال يدها و أخذت واحدة (برتقالة) قشرتها و بدات تأكلها و لكن الوجع زاد عليها و قرصها أسفل بطنها و فكرت أن تترك عبد الرحيم برفقة عمتها نرجس و تنزل الي العيادة الخارجية تقطع تذكرة و تدخل الي الحكيم يكشف عليها و يصف لها الدواء و لكنها تذكرت أنها غادرت الدار في فضل الله عثمان مسرعة وراء عبد الرحيم و جاءت الي المستشفي دون أن ترتدي سروالها الداخلي و وضعت نصف البرتقالة علي الدولاب الصاج و قامت واقفة و مالت عليه و قالت “عبد الرحيم عبده” … “انت سامعني؟” – “أيوه” .. نرجس انتبهت للكلام و لكن البنت دلاال همست داخل أذن عبد الرحيم اليمني وطلبت منه أن يعطيها سرواله الداخلي. “أكشف بيه و أرجعه لك تاني” و قال عبد الرحيم “هيه ؟” – “اديني لباسك أنزل أكشف بيه”. و مالت نرجس و هي تنقل عينيها بين الاثنين دون أن تتمكن من السمع : “فيه أيه ياولاد ؟”. و ثقل رأس عبد الرحيم لفترة . ثم سمعته نرجس يتساءل ان كان معني هذا أن دلال تقف أمامه الآن : “من غير لباس ؟” و نرجس خبطت بيدها علي صدرها و قالت : “يا مصيبتي .كلام أيه اللي يتقوله ده يا عبد الرحيم ؟”. و دلال قالت “ياخويا قيمة مانزل لغاية الدكتور و اطلع ” – ” آه يا مرة يابنت الكلب “. … و عندما أفاق رجع يقول : “لباسي ؟”. و ضمت نرجس أصابعها أمام فمها الخالي من الأسنان : ” يانهار منيل . كلام أيه ده ياولاد ؟” و قالت دلال : ” جري أيه يا عبده ؟ هو أنا هاكله ؟ ” – : “آه يا مرة يا بنت الكلب يا بنت تفيدة يا ناقصة “.
في النهاية الجدة هانم التي استحضروها من القرية الي شارع فضل الله عثمان في امبابة حيث يسكن ابنها عبد الرحيم و ابنتها نرجس و أسرتيهما و أحفادها الذين كبروا و تزوجوا و أنجبوا و ماتت نرجس و مات عبد الرحيم و هانم لا تدرك موتهما ولا تعترف به تريد أن تخرج من بيت الابن لتزور الابنة في نفس الشارع و لكن جلبة عربة كارو تجفلها فتغير اتجاهها دون أن تدري و تتوه .. ” تدور مع الأزقة و تغيب في الحارات . تفتش في و جوه الناس . تلج البيوت المفتوحة و تغادرها . تدخل الدكاكين علي أصحابها تتفرج و تلمس فترينات العرض الزجاجية بأصابعها الدقيقة الجافة و تضحك في عبها . تداري اخضرار وجهها الغريب في طرحتها الحريرية السوداء . اذا داهمها الليل تحتمي بالماء تنام جالسة بجرمها الصغير تحت شجيرات الخروع . .. ترهف أذنيها صوب موكب عربات الكارو القادمة من سكة القناطر …. تشيعها و هي تخبو و تغيب واحدة تلو الأخري عند انحناءة النهر . و تنادي عل أحدا يسمعها : “مش رايح البلد يابني ؟”
الوراق صيف 1998.
-5-
حجرتان و صالة
عمنا الجميل أبو خليل وداع بدموع و ابتسام
“يظهر اني ابتديت أكبر” أو “دي أعراض الزهايمر” .. بنسمعها من ناس كتير في أعمار مختلفة غالبا علي سبيل الهزار في محاولة واضحة لانكار انهم مش بس ابتدوا لكن يمكن قربوا ينتهوا يكبروا .. لأنه بالمناسبة كلنا ك “هوموسابينس” بنبتدي نكبر بمعني ان معدل التقادم بيبقي اعلي من معدل البنا و التجديد في خلايانا و أجهزتنا علي سن العشرين بالتقريب. الشيخوخة و دي لغويا محددة تحديد دقيق عرفته زمان و نسيته ( حدود ال 50 سنة ) مرحلة مبكرة عن المظنون عنها اصطلاحيا عند معظم الناس و هو انها مرحلة التشطيب. الشيخوخة الاصطلاحية مابقلهاش سن محدد بعد ما بقينا بنشوف ناس بيهكعوا و يدبلوا في ستيناتهم و تمانينيين محتفظين بقدر كبير من الحيوية و معظم “عقلهم” و ذاكرتهم . ابراهيم أصلان في حجرتين و صالة بيدينا أعراض و مظاهر المرحلة دي في سلاسة و جمال و شجاعة ماشوفتهاش في أجرأ أعمال أدب الاعتراف و السيرة الذاتية و ده من غير ما يقول أنا الأديب الواعي الجدع اللي بيقول اللي محدش قاله قبل كده لكن في هدوءه المعتاد المخادع اللي بيخلي ناس كتير مايسمعوهوش و مايسمعولوش علي اعتبار انه مابيقولش حاجة مهمة.
بتبتدي المرحلة بكسر حاجة .. عم ابراهيم عزل من امبابة و خد شقة في المقطم اتنقل لها هو و زوجته و أولاده الاتنين . الفصل الأول من الكتاب عن “الحارس” أو “البواب” بعتبره تمهيد و فتح ستارة و اضاءة المسرح و الفصل التاني و القصة الأولي “الرجل الذي كسر الطبق” بيعترف ب “عملة” ما عملهاش – بحسب معرفتي بيه – انما يظهر كان نفسه يعملها .. بيقول انه دخل المطبخ الصبح و مراته نايمة ( هي مابتنامش غير بعد ما تصلي الفجر حاضر و تصحي قرب ميعاد رجوع الأولاد ) و وقع طبق من غير ما ياخد باله و الطبق اتكسر بس ماتفتفتش فعرف يجمع أجزاءه بسهولة و يحطها في صفيحة الزبالة و يخبيها بورق الخس .. بتصحي الزوجة و بيرجع الولد الكبير و يصحي الولد الصغير و بتقول : كان فيه طبق هنا .. الولاد طبعا مالهمش دعوة بالموضوع .. واحد كان بره و التاني لسه صاحي فبيضطر أبو خليل – اللي مسمي نفسه هنا أبو سليمان – يرد و يستعبط و يحاول يتوهها و هو قلقان ل تنكش في الزبالة و تشوف الطبق المكسور . من الأعراض المهمة برضه غير تخبية الحاجات المكسورة عدم التدقيق و التركيز في الحديث مع الأصحاب القدام زي مابنشوف في “صديق قديم ” خصوصا لو الحديث تليفوني لدرجة انه عمل مكالمة طويلة و خلصها و هو و احنا مش متأكدين اذا كان اللي بيكلمه مصطفي الصباغ ولا مصطفي غيره . و مرتبط بده برضه محاولات التذكر البائسة زي ما حصل ( في الفصل التالي ) “بعد المغرب .. تقريبا” لما مراته سألته : هو انا امبارح كنت بأقول أيه يا خليل و انت رديت علي قلت أيه ؟ و بعد محاولات ضايعة للتذكر و بناء منطق للحوار يذكر فيها شئ عن طول سلك التليفون تنهي هي الحوار بالرجز قائلة : اللي مش فاكر يقول انه مش فاكر و خلاص بدل مايقول تليفون و يقول سلك قصير و يقول سلك طويل . و بالرجز تاني و شعوره بشئ من الأسي ينتهي الحديث التالي بينهما في “آخر النهار” عندما يسألها ان كان ابنهما طول (بكسر الواو ) ولا هو اللي قصر عندما يلاحظ انه بقي ينظر لأعلي و هو بيكلمه مع انهم قبل كده كانوا بنفس الطول. الاكتشافات الجديدة القديمة و مراجعات الذاكرة من الأعراض المهمة زي ما بتوضح قصة ال “عدس أصفر” و ازاي ان مراته فضلت أكتر من 30 سنة تدمس له الفول ب رز مع ان أمه كانت بتدمسه بعدس أصفر و لما لاحظ انها مابقتش تاكل منه رجع فكرها بطريقة التدميس بالعدس و علي عكس توقعه دمسته فعلا بشوية عدس كانوا زايدين عندها و اكتشفت بعد طول العمر ده ان الطريقة دي كانت أفضل من طريقتها . المراجعات و العتابات و المرارة الناتجة عنها هي موضوع القصة التالية “كان يعتقد” .. بتسأله مراته عن حاجة و بيبتدي رده ب : “أعتقد ..”و بتبدي الضيق و شئ من السخرية من لازمة أعتقد و هو بيسألها ان كان بيكررها كتير و هي بتبين له انه بيكررها أكتر من اللازم و فيما يشبه الاعتذار تشرح له انها مابتقولش كده عشان نفسها لكن لأنها بتبقي “في نص هدومها” قدام الضيوف و هو بيقول أعتقد بين كل كلمة و التانية و هو بيقول لها : معاكي حق طبعا و مابيقوللهاش انه يعتقد ان قلبها اسود.
كبر الولاد و اتجوزوا واحد بعد التاني و فضيت الشقة عليهم رغم الزيارات المنتظمة و بقت أمهم تنام في أوضتهم كل ليلة علي سرير واحد منهم بالتبادل و تمسك فيهم يبيتوا لما ييجوا يزوروهم و هو ماتبسطش من كده و كان بيقول لها اللي يبيت يبيت و اللي مايبيتش ما يبيتش . في التعب الصحي و بدأ التردد علي المستشفيات و أخبار موت المعارف اللي ممكن يكونوا أصغر مننا في السن بنوصل ل قلب المرحلة و ننط 4 فصول و نوصل ل “أبيض و اسود” عن موت الرفيقة الهادي و المفاجئ رغم انه كان بيهيأ نفسه له في فصل سابق لما لاحظ مرة انها ماتقلبتش لفترة طويلة و هي نايمة في أوضة الأولاد. الموت رافقه موقف طريف لما كان بيتفرج علي فيلم قديم و رن جرس التليفون في الفيلم و هي من سريرها قالت : حد يرد علي التليفون يا ولاد و عباس فارس قام رد علي التليفون و هو ضحك و قام يقول لها ان عباس فارس سمع كلامها و رد علي التليفون لقاها ماتت . عم ابراهيم حكي الحكاية دي 3 مرات علي الأقل و هو مصمم انه كل مايحكيها ل حد يلقاه مشغول بحديث تاني ف مابيحاولش يعيدها و بيحتفظ بيها لنفسه ! و لو حكاها 10 مرات كنت هاقراها كل مرة بنفس الشغف . هنا – عشان حاسس اني طولت -مضطر انط لأجمل حكاية قرب آخر الكتاب و دي حصلت في “زقاق جانبي” في امبابة اللي رجع قعد في شقته القديمة فيها بعض الوقت بعد موت المرحومة لما كان رايح يصلي الجمعة و شاف واحدة ست قاعدة علي بسطة سلم بيتها و بتأكل فراخها من لقمة عيش بتفتفتهالهم و لفت نظره فرخة بني فضل يتابعها بتركيز لفت نظر الست و راح صلي و رجع يبص علي نفس الفرخة و بعدين ابتدا حديث طويل مع الست بدأ ب : نهارك سعيد يا هانم و بعدين سألها اذا كانت مربية الفرخة دي و هي لسه كتكوت و هي قالت له انها تعرفها من ساعة ما كانت بيضة و فقست عندها و بعدين شرحلها سبب متابعته للفرخة دي بالتحديد و هو ان الحاجة ( أمه ) كان عندها كتكوت شبه الفرخة دي بالظبط و خرج و ضاع و مالقيوهوش و انه كده اتطمن و هدي لما عرف .. و سألها اذا كانت اتضايقت لما سألها عن أصل الفرخة و شرحلها انه بعد موت المرحومة قرر يسأل السؤال اللي يخطر علي باله بدون تردد ولا تأجيل مع انه قبل كده احتفظ لنفسه بأسئلة لمدة أكتر من ستين سنة و ان ده كان غلط و الست هاودته بس قعدت مستنية حد يعدي عليها عشان تحكيله حكاية الراجل الغريب العجيب ده . دي تقريبا القصة الوحيدة – بجانب جزء من قصة الرجل الذي كسر الطبق – اللي ماحصلتش و رغم كده هي أصدق و أدق من باقي القصص اللي حصلت أحيانا بحذافيرها ( بتحتوي علي واحد من أهم أعراض التقدم في العمر و هو عدم التحرج من تغيير عادات و طباع تمسكنا بيها طول الوقت الي الضد بمنتهي السهولة ) و ده جمال الادب و سر سبقه للعلم في صميم تخصصه و عقر داره أحيانا.
و بهذه المحاولة اللي مايهمنيش كتير لو فشلت في صيد عصفورين بحجر واحد (1) التعريف بأدب ابراهيم أصلان (2) مواكبة سلسلة مقالات لمياء النحاس عن أواخر أيام الانسان أو أعوامه أودع الرجل الجميل اللي أدخل كتير من البهجة و الخبرة و المعرفة و التواضع في عقلي و حياتي.
احدث التعليقات