جولة مع ابراهيم أصلان وأدبه … بقلم جورج فريد

28 06 2022

العدد الأول من مجلة تفكير

الكتابة عن كاتب جيد أمر صعب. وإبراهيم أصلان في مقدمة المقدمة من جيل الكتاب التالي لجيل الرواد حسب شهادة نجيب محفوظ عنه في تقديمه لتوفيق الحكيم و تعريفه به . أحب أن أبدأ ب “توجيه” من أصلان لقراءه عن الطريقة الفنية للكتابة عن الأحداث الكبيرة .. يقول : “اذا حدث و قرأت قصصا لا تتعرض بشكل مباشر لأي من الأحداث الكبيرة التي نعيشها فلا تظن أن هذه القصص المعنية بصغائر الأمور كانت بمنأي عن هذه الأحداث الكبيرة أبدا ….. لذلك أرجوك اذا ما صادفك رجلا في قصة أو رواية و قد جلس صامتا أو طفق يضحك من دون سبب أو رأيت أحدا يمشي في الشارع و هو يتبادل الكلام مع نفسه أو لمحت امرأة تزينت و وقفت أمام المرآة لا تعرف ماذا تفعل بنفسها .. اذا صادفتك مثل هذه التفاصيل العابرة فلا تظنها غير ذات صلة بهذه المسائل الكبيرة. بعد ذلك يلخص قصة قصيرة من الأدب الألماني عن زوج من الألمان العواجيز .. يتسلل الرجل من الفراش ليلا الي المطبخ و يختلس قطعة من الخبز و تقوم الزوجة وراءه و تتظاهر بعدم ملاحظة ما فعل و يعودان الي الفراش و عندما يبدأ الرجل بمضغ قطعة الخبز في هدوء تمثل امرأته أنها نائمة حتي تنعس فعلا علي وتيرة المضغ البطيئة . و في اليوم التالي تتظاهر بالشبع بعد أكل شريحتين من الخبز و تدفع بالثالثة الي رجلها الذي يقبل كرمها بعد قليل من الممانعة و التردد. القصة لم تكن الا عن الحرب مع أن الحرب لم تذكر بكلمة واحدة في سياقها. ابراهيم أصلان لن يتعرض في سياق سرد حكايته للمسائل و الأحداث الكبيرة أو الشخصيات البطولية الا عرضا و لماما . كل حكاياته و أغلبها حقيقي الي حد بعيد و بعضها حقيقي تماما عن موظفين و باعة و سواقين و ستات بيوت و تحدث في شوارع المدن و القري و علي مقاهيها و داخل منازلها أو في مكاتب مصالحها. هذه قصة من الحقيقية تماما وثقها موظف البوسطة الذي أصبح كاتبي المفضل أحب أن أختم بها هذه المقدمة عن شخصه و أدبه.

القصة عنوانها رسالة الي الله فعلا من مجموعة “شئ من هذا القبيل” في تقديمها يشرح كيف صمم علي حيازة تلك الرسالة التي سمع زملاءه يتندرون عليها ثم نص الرسالة التالي :
كتابة المظروف من الوجه
البريد الجوي
يصل و يسلم الي الأستاذ ربنا العزيز الكريم
كتابة المظروف من الخلف
الراسل مصطفي عبد الوهاب
عنوان الراسل
بلاق شركس حارة المصري رقم 22
نص الخطاب الصفحة الأمامية
بسم الله الرحمن الرحيم
ربنا العزيز بعد السلام عليكم و رحمة الله و بركاته : أنا مصطفي عبد الوهاب عبد العليم من بني مزار مديرية المنيا أنا كنت بشتغل في بلدي شغله و بعدين رفدونا كلنا لي ( ليه ) رفدونا اللي قال لي يا مصطفي اذهب علي مصر و انت تشتغل في أي شغلة فحضرت مصر أنا في مصر أديلي 20 يوم و انا بابحث عن شغل و لم ألقا أي شغلة تناسبني فأرجوك انت تبعت لي أي شغله من أمامك و أنا أشكرك.
أنا مصطفي عبد الوهاب .
عنوان مصر هو بلاق شركس. حارة المصري نمرة 22
أرجوك الرد حالا حالا حالا ( ثم كلمة مبهمة )
الصفحة الخلفية
الرد حالا حالا حالا
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

-2-

اتفقنا علي ان الكتابة عن كاتب كبير أمر مش سهل و ده اللي بيخليني علي يقين ان ابراهيم أصلان كاتب عملاق لأني من اول امبارح مش عارف أكتب أيه عنه رغم توافر معلوماتي عنه و قراءتي ل 5 من كتبه في الأسبوع الأخير. بعتذر مقدما للي مش هيعجبهم البوست ده عنه و حجتي ان المتعة هي قراءة أصلان نفسه مش في القراءة عنه فما هذا الا محاولة للحث أو الاستفزاز للبحث عن كتبه.
ابراهيم أصلان من مواليد شبشير الحصة – غربية 1935 و رغم ان فرق السن بينه و بيني مقارب ل 20 سنة بحسه صاحبي و بيتهيالي اني لو كنت قابلته في الحياة كنا هنتقارب و نرفع الكلفة . و كان عندي فرصتين فعليتين لمقابلته من واقع الاماكن اللي بيوصفها في قصصه اللي معظمها حقيقي و أغلب حوادثها وقعت بالفعل . ستي و جدي كانوا ساكنين في امبابة بعد ما عزلوا من السبتية في أوائل الستينات و اشتروا هناك بتحويشة العمر حتة أرض و بنوها بيت لعله كان قريب من فضل الله عثمان الخالد ب فضل ابراهيم أصلان. تيتة ماتت في مراهقتي و زياراتي لامبابة انقطعت بوفاتها. الفرصة الأكبر كانت في العتبة حيث كان مقري التاني محل أبويا اللي كنت بأقضي فيه معظم أوقات فراغي و أجازاتي بدءأ من أواسط الستينات وان.ّ..ّ……ّ لسه تلميذ في ابتدائي لغاية ما خلصت الجامعة . المحل علي ناصية مقابل من جهة لضهر مبني البوستة ( العمومية ) مقر عمل أصلان لفترة ما في الستينات برضه و من جهة تانية لقهوة عبده السروجي اللي قال الأديب انه كان بيقعد عليها مع زملاء العمل في قصة سماها غريب الدار علي اسم أشهر أغاني المطرب المعلم صاحب القهوة. او ممكن برضه كنا نخبط في بعض و احنا مش واخدين بالنا علي سور الأزبكية بسبب انهماكنا في تصفح بعض الكتب. ما علينا ماقابلتوش فصارت صحوبية من جانب واحد.
موظف البوستة اللي تنقل في أعمال بريدية مختلفة كان عاوز يكون كاتب و كاتب قصة قصيرة تحديدا تأثرا ب أنطون تشيكوف و ابتدا ينشر بعض قصصه في بعض المجلات الثقافية و ابتدا الأدباء الكبار يسمعوا عنه و ممكن نقول ان نجيب محفوظ اكتشفه و زكاه لمنحة تفرغ فاضطر يكتب رواية بدل القصص القصيرة التي لا تؤهل للحصول علي المنحة .. كتب “مالك الحزين” اللي تحولت بعد كده بزمان لفيلم “الكيت كات”. أشهر كتب ابراهيم أصلان الي جانب مالك الحزين “وردية ليل” و “خلوة الغلبان” و “حكايات فضل الله عثمان”.. أجملها في نظري “صديق قديم جدا ” رأيي انها بتمثل مع “شئ من هذا القبيل” تمام نضجه في المجموعتين دول بلاقي الفنان صانع الدهشة و البهجة اللي متأكد ان ابراهيم أصلان كانه في الحياة طول الوقت لكن مقدرش يطلعه في قصصه الأولي “بحيرة المساء” ” و ردية ليل ” المحملتان بالحزن و الشجن مثلا . مش بس الدهشة و البهجة و روح السخرية الراقية جدا .. انما برضه الأسلوب الفريد اللي اقترب جدا من الحكي بلغة الكلام الدارج لأبطاله البسطاء .. أدب بسيط و متميز .. مكتوب من كاتب فنان بيعبر عن روح البيئة اللي هو طالع منها. في الختام هأسوق بعض اقتباسات منه بدون مراعاة للسياق كمحاولة لجرجرة رجل من لم يقرأ بعد لابراهيم أصلان :
حدثني و هو بالشبشب و الجلباب و قال : “كان نفسي أقعد معاك شوية لكن مش فاضي”
أنا لم أكن أريده أن يقعد معي . أنا كنت أريد أن أنام لذلك هززت رأسي و استدرت كي أعود الي شقتي لكنه لحقني و قال
“انت عارف طبعا الأستاذ عبد الظاهر “
خيل الي اني أعرف الأستاذ عبد الظاهر و وجدتني أقول “آه”
من قصة “حدثني قال.
… كنا نتحدث عن مسلسل طوله حوالي 400 أو 500 حلقة كتبتها أنا و مازلت أستكملها و أن الرقابة كانت اعترضت عليها و مجدي كان يطمئنني : “ولا يهمك”
و أنا أقول : “ازاي ؟”
“كمل انت بس و لما المسلسل يعرض مش هنخلي الرقابة تتفرج عليه”
” لأ يا راجل”
“زي مابأقولك كده”
“طيب افرض اتفرجوا ؟”
“يا عم ابراهيم انت راجل كبير و فاهم. و بعدين احنا معانا علي بدرخان و محمد هاشم و معانا فؤاد نجم و خيري بشارة و دول بعد ما يتفرجوا هيقولوا احنا ماشوفناش حاجة”
من قصة ” أحلام صيفية”
كان حدثني عن مسألة الفساد الذي استشري فلما رأي ما أنا عليه من أسي :
“يا سيدي الفاضل هذا أمر يمكن تفهمه نحن في الأول و الآخر مجرد بشر”
و تركني … و انصرف . و أنا فكرت في الكلام و أدركت : بما أن الفساد أحد مظاهر ضعفنا البشري فان علينا أن نكون حميرا حتي لا نكون فاسدين.
من قصة “فيما يري الجالس “
… و التقينا في حديقة المكتب و وقفنا نتكلم علي جنب . أثناء ما كنا نضحك فوجئت بمن يدفعني في مرفقي من الخلف و عندما استدرت رأيت حمار سليمان و هو يباعد ما بين شفتيه و ينظر الي بعينين جميلتين و قد ارتسمت علي وجهه المرفوع ابتسامة لا شك فيها … و قلت : “أيه الحكاية دي هو الحمار بيضحك ولا أيه ؟”
و سليمان قال : ” طبعا . الحمير مش زي بعضها “
من “كان ذلك هو الأمر”

-3-

المعلوم من أبي خليل بالضرورة
العنوان استفزازي بالقصد مناكفة في واحد صاحبنا لا داعي لذكر ان أول حرف من اسمه جمال عمر أبو كريم .. يقرا هو وردية ليل و عصافير النيل و شئ من هذا القبيل و يستمخ و يدبس القارئ المبتدئ المسكين في بحيرة المساء و مش بعيد يتنيها ب يوسف و الرداء و يتفرج عليه و هو محتاس و واقع في حيص بيص و بيسأل نفسه : هو ده ابراهيم أصلان اللي طالعين بيه سابع سما ؟ ما عادي خالص أهو و كمان غامض و كئيب .. ولا يمكن أنا اللي حمار و مبفهمش في الأدب الراقي ؟ لست واحدك يا عزيزي القارئ المبتدئ ( ببحيرة المساء ) و خد الكلام ده من لسان عم ابراهيم و قلمه و معذرة اني مش هاكتبه بنصه الأصلي ولا حتي هأقدر أحدد بدقة هو كاتبه فين انما لربما و أرجح الظن في شئ من هذا القبيل و مش هفتح 10 كتب pdf و مقداميش ولا ورقة أصلانية و هكتب فقط من الذاكرة التعبانة .. بيقول ان واحد ذاكره بالاسم من الناس اللي لها باع في مجال الأدب قابله مرة و قال له : علي فكرة أنا قريت كتابك … و مفهمتش أي حاجة ! و انه مكانش عارف يتصرف ازاي في موقف زي ده لكنه تصرف في النهاية علي أي حال .. فياريت اللي قرا حاجة لمولانا و مفهمش مايزعلش ولا ياخد في باله و اللي لسه ماقراش مايبتديش بالبحيرة ولا بأبي حجاج و الرداء و مايتبعش منهج القراءة الكرونولجي المستقيم لكن يبتدي من ورا لقدام أو من النص و يفرع لأن المعلوم عموما بالضرورة من أي حاجة ان الحاجة مختلفة و متغيره و عمرها ما كانت ثابتة حتي لو كانت جماد مش كيان له حيويته أو مرتبط بحياة البشر .. أما المعلوم خصوصا بالضرورة من أدب ابراهيم اصلان انه في مبتداه بيفكرني ( أنا شخصيا مش أي حد تاني ) ب صنع الله ابراهيم و بعد كده بيفكرني ب محمد عفيفي و الملحوظة دي خاصة بمن يعرفون صنع الله و عفيفي .. و هنا يلزم تنويه للعارفين و المشعارفين هو اني جبت كتابين لصنع الله كملت واحد منهم بالعافية و مقدرتش أكمل التاني و معرفش راحوا فين أما حبيبي محمد عفيفي فمازلت محتفظ بكتير من كتبه و قريتها أكتر من مرة و لما يصدف اني اكون بدور علي كتاب تاني و يقع في ايدي كتاب لعفيفي مقدرش أسيبه قبل ما اعيد قراية صفحتين تلاتة قول فصلين تلاتة منه. بس برضه فيه فرق نقدر نقول انه جوهري بين عفيفي و أصلان فالأول فيلسوف حرفوش يدعو لعدم أخد الحياة بجدية و يبدو انه فهمها بدري و ساعدته ظروفه و التاني فيلسوف متحرفش بحكم ظروفه ماكتفاش لآخر نفس في صدره و آخر قطره في قلمه بما فهمه بعيونه المفتوحة و عقله الفاحص من الحياة لكن حاول يوصل لفهم اعمق بالغوص ورا تفاصيلها . و يلزم برضه تنويه علي التنويه هو ان رأيي في صنع الله ابراهيم ( يجب أن ) لا ينقص من قدره و خصوصا لو تعلمون ان يوسف ادريس قال عنه انه خليفته في الملاعب .. آسف قصدي في المكاتب مع ضرورة التنبيه علي ان د. ادريس داهية مكار أريب معتز و معتد بنفسه و بأدبه و كان يري نفسه أولي من نجيب محفوظ ب نوبل و ما بيحبش حد يسرق الجو و الشو منه. و رحمة الله و رأفة الطبيعة علي الاموات و الأحياء.

-4-

“عصافير النيل” جوهرة التاج
أكمل أعمال ابراهيم أصلان .. هي رواية كل شئ .. خلاصة التجربة و محصلة الاستنتاجات .. دليل التمكن من حرفة الكتابة و علامة صفاء موهبة فن تشكيل التحف بالكلمات و لهذا أهدي الجواهرجي أثمن ما صاغ الي أغلي الأحباب .. نص الأهداء القصير : الي الولدين : “هشام ” و ” شادي “.
حكاية عائلة ريفية تستقر في ضاحية عشوائية من ضواحي الحاضرة فتأخذ في التطبع بطباع المدينة حتي يكاد ينقطع كل ما يربطها بالريف حتي ملكهم من الأرض الزراعية أصبحوا لا يعرفون عنه شيئا . أو من منظور أبعد يتيح رؤية أوسع حكاية ضياع بلد ب “توهان” أهلها.
معظم ما نقرأه في رواية عصافير النيل موجود في قصص أصلان القصيرة الأخري بالتشابه و أحيانا بالتعيين . فن أصلان لم يكن موضع شك أو تقليل بدون هذه الرواية و لكنها وحدها تكفي لمعرفة قدره . ابراهيم أصلان كما سبق القول لا يحب طرح المسائل الكبيرة الا من خلال المشاهد الصغيرة لأنه يكتب رسائله بالأساس الي الانسان البسيط الذي لا تتيح له ظروف هموم المعيشة الا القليل من الوقت و الثقافة ليستوعب المسائل الكبيرة في عروض متفلسفة طويلة و لهذا حدد منذ البداية طريقه الأدبي ككاتب قصة قصيرة و لكن يأتي وقت يشعر فيه المثقف و الأديب الذي صار كبيرا بالفعل – بلا سعي منه بل أستطيع القول ضد رغبته – بضرورة ارسال رسالة طويلة الي من يهمه الأمر و هنا يتحتم كتابة رواية . اصلان لم يكتب هذا العمل الجميل ليستعرض موهبته و قدراته بل كتبه اضطرارا لأن اسلوب البرقيات القصيرة لن يكون كافيا لشرح الأمر . في رواية كل شئ يجد القارئ كل ما يخطر علي باله عبورا من الملهاة الي المأساة مرورا بالتاريخ و السياسة و الجنس و الجريمة بلا تكلف أو افتعال أو اقحام بل بسلاسة لا أذكر أني رأيت لها نظيرا عند أديب مصري أو عربي أو عالمي علي كثرة ما قرأت من الروايات الجيدة .. هذا علي المستوي البسيط السردي . أما علي مستوي الترميز و التشفير فسيجد غواصو الأعماق كنزا من اللآلئ يفضح مخابئها بريق لا تخطئه العيون . عنوان الرواية نفسه يخبر من لم يقرأها بما ينتظره علي صفحاتها .. هو عن شاب حديث النزوح من القرية الي المدينة يذهب لصيد السمك من نيل امبابة بسنارة مبالغ في طولها فيصطاد دون أن يلحظ أو يلاحظ المتفرجون عصفورة من الهواء و يحسبون انها كانت غائصة في مياه النيل.
اخترت لكم مشهدا واحدا من الرواية بالغ الطرافة و الصراحة التي قد يعتبرها البعض قلة أدب و وقاحة أما أنا فأقدر الأدب الذي يكشف الحياة كما هي و لا يزورها بالمداراة و التجميل . ثم مشهد الختام .. عساي أكون نجحت في جذب ضيوف جدد الي موائد مولانا ابراهيم أصلان .
“مدت دلال يدها و أخذت واحدة (برتقالة) قشرتها و بدات تأكلها و لكن الوجع زاد عليها و قرصها أسفل بطنها و فكرت أن تترك عبد الرحيم برفقة عمتها نرجس و تنزل الي العيادة الخارجية تقطع تذكرة و تدخل الي الحكيم يكشف عليها و يصف لها الدواء و لكنها تذكرت أنها غادرت الدار في فضل الله عثمان مسرعة وراء عبد الرحيم و جاءت الي المستشفي دون أن ترتدي سروالها الداخلي و وضعت نصف البرتقالة علي الدولاب الصاج و قامت واقفة و مالت عليه و قالت “عبد الرحيم عبده” … “انت سامعني؟” – “أيوه” .. نرجس انتبهت للكلام و لكن البنت دلاال همست داخل أذن عبد الرحيم اليمني وطلبت منه أن يعطيها سرواله الداخلي. “أكشف بيه و أرجعه لك تاني” و قال عبد الرحيم “هيه ؟” – “اديني لباسك أنزل أكشف بيه”. و مالت نرجس و هي تنقل عينيها بين الاثنين دون أن تتمكن من السمع : “فيه أيه ياولاد ؟”. و ثقل رأس عبد الرحيم لفترة . ثم سمعته نرجس يتساءل ان كان معني هذا أن دلال تقف أمامه الآن : “من غير لباس ؟” و نرجس خبطت بيدها علي صدرها و قالت : “يا مصيبتي .كلام أيه اللي يتقوله ده يا عبد الرحيم ؟”. و دلال قالت “ياخويا قيمة مانزل لغاية الدكتور و اطلع ” – ” آه يا مرة يابنت الكلب “. … و عندما أفاق رجع يقول : “لباسي ؟”. و ضمت نرجس أصابعها أمام فمها الخالي من الأسنان : ” يانهار منيل . كلام أيه ده ياولاد ؟” و قالت دلال : ” جري أيه يا عبده ؟ هو أنا هاكله ؟ ” – : “آه يا مرة يا بنت الكلب يا بنت تفيدة يا ناقصة “.
في النهاية الجدة هانم التي استحضروها من القرية الي شارع فضل الله عثمان في امبابة حيث يسكن ابنها عبد الرحيم و ابنتها نرجس و أسرتيهما و أحفادها الذين كبروا و تزوجوا و أنجبوا و ماتت نرجس و مات عبد الرحيم و هانم لا تدرك موتهما ولا تعترف به تريد أن تخرج من بيت الابن لتزور الابنة في نفس الشارع و لكن جلبة عربة كارو تجفلها فتغير اتجاهها دون أن تدري و تتوه .. ” تدور مع الأزقة و تغيب في الحارات . تفتش في و جوه الناس . تلج البيوت المفتوحة و تغادرها . تدخل الدكاكين علي أصحابها تتفرج و تلمس فترينات العرض الزجاجية بأصابعها الدقيقة الجافة و تضحك في عبها . تداري اخضرار وجهها الغريب في طرحتها الحريرية السوداء . اذا داهمها الليل تحتمي بالماء تنام جالسة بجرمها الصغير تحت شجيرات الخروع . .. ترهف أذنيها صوب موكب عربات الكارو القادمة من سكة القناطر …. تشيعها و هي تخبو و تغيب واحدة تلو الأخري عند انحناءة النهر . و تنادي عل أحدا يسمعها : “مش رايح البلد يابني ؟”
الوراق صيف 1998.

-5-

حجرتان و صالة
عمنا الجميل أبو خليل وداع بدموع و ابتسام
“يظهر اني ابتديت أكبر” أو “دي أعراض الزهايمر” .. بنسمعها من ناس كتير في أعمار مختلفة غالبا علي سبيل الهزار في محاولة واضحة لانكار انهم مش بس ابتدوا لكن يمكن قربوا ينتهوا يكبروا .. لأنه بالمناسبة كلنا ك “هوموسابينس” بنبتدي نكبر بمعني ان معدل التقادم بيبقي اعلي من معدل البنا و التجديد في خلايانا و أجهزتنا علي سن العشرين بالتقريب. الشيخوخة و دي لغويا محددة تحديد دقيق عرفته زمان و نسيته ( حدود ال 50 سنة ) مرحلة مبكرة عن المظنون عنها اصطلاحيا عند معظم الناس و هو انها مرحلة التشطيب. الشيخوخة الاصطلاحية مابقلهاش سن محدد بعد ما بقينا بنشوف ناس بيهكعوا و يدبلوا في ستيناتهم و تمانينيين محتفظين بقدر كبير من الحيوية و معظم “عقلهم” و ذاكرتهم . ابراهيم أصلان في حجرتين و صالة بيدينا أعراض و مظاهر المرحلة دي في سلاسة و جمال و شجاعة ماشوفتهاش في أجرأ أعمال أدب الاعتراف و السيرة الذاتية و ده من غير ما يقول أنا الأديب الواعي الجدع اللي بيقول اللي محدش قاله قبل كده لكن في هدوءه المعتاد المخادع اللي بيخلي ناس كتير مايسمعوهوش و مايسمعولوش علي اعتبار انه مابيقولش حاجة مهمة.
بتبتدي المرحلة بكسر حاجة .. عم ابراهيم عزل من امبابة و خد شقة في المقطم اتنقل لها هو و زوجته و أولاده الاتنين . الفصل الأول من الكتاب عن “الحارس” أو “البواب” بعتبره تمهيد و فتح ستارة و اضاءة المسرح و الفصل التاني و القصة الأولي “الرجل الذي كسر الطبق” بيعترف ب “عملة” ما عملهاش – بحسب معرفتي بيه – انما يظهر كان نفسه يعملها .. بيقول انه دخل المطبخ الصبح و مراته نايمة ( هي مابتنامش غير بعد ما تصلي الفجر حاضر و تصحي قرب ميعاد رجوع الأولاد ) و وقع طبق من غير ما ياخد باله و الطبق اتكسر بس ماتفتفتش فعرف يجمع أجزاءه بسهولة و يحطها في صفيحة الزبالة و يخبيها بورق الخس .. بتصحي الزوجة و بيرجع الولد الكبير و يصحي الولد الصغير و بتقول : كان فيه طبق هنا .. الولاد طبعا مالهمش دعوة بالموضوع .. واحد كان بره و التاني لسه صاحي فبيضطر أبو خليل – اللي مسمي نفسه هنا أبو سليمان – يرد و يستعبط و يحاول يتوهها و هو قلقان ل تنكش في الزبالة و تشوف الطبق المكسور . من الأعراض المهمة برضه غير تخبية الحاجات المكسورة عدم التدقيق و التركيز في الحديث مع الأصحاب القدام زي مابنشوف في “صديق قديم ” خصوصا لو الحديث تليفوني لدرجة انه عمل مكالمة طويلة و خلصها و هو و احنا مش متأكدين اذا كان اللي بيكلمه مصطفي الصباغ ولا مصطفي غيره . و مرتبط بده برضه محاولات التذكر البائسة زي ما حصل ( في الفصل التالي ) “بعد المغرب .. تقريبا” لما مراته سألته : هو انا امبارح كنت بأقول أيه يا خليل و انت رديت علي قلت أيه ؟ و بعد محاولات ضايعة للتذكر و بناء منطق للحوار يذكر فيها شئ عن طول سلك التليفون تنهي هي الحوار بالرجز قائلة : اللي مش فاكر يقول انه مش فاكر و خلاص بدل مايقول تليفون و يقول سلك قصير و يقول سلك طويل . و بالرجز تاني و شعوره بشئ من الأسي ينتهي الحديث التالي بينهما في “آخر النهار” عندما يسألها ان كان ابنهما طول (بكسر الواو ) ولا هو اللي قصر عندما يلاحظ انه بقي ينظر لأعلي و هو بيكلمه مع انهم قبل كده كانوا بنفس الطول. الاكتشافات الجديدة القديمة و مراجعات الذاكرة من الأعراض المهمة زي ما بتوضح قصة ال “عدس أصفر” و ازاي ان مراته فضلت أكتر من 30 سنة تدمس له الفول ب رز مع ان أمه كانت بتدمسه بعدس أصفر و لما لاحظ انها مابقتش تاكل منه رجع فكرها بطريقة التدميس بالعدس و علي عكس توقعه دمسته فعلا بشوية عدس كانوا زايدين عندها و اكتشفت بعد طول العمر ده ان الطريقة دي كانت أفضل من طريقتها . المراجعات و العتابات و المرارة الناتجة عنها هي موضوع القصة التالية “كان يعتقد” .. بتسأله مراته عن حاجة و بيبتدي رده ب : “أعتقد ..”و بتبدي الضيق و شئ من السخرية من لازمة أعتقد و هو بيسألها ان كان بيكررها كتير و هي بتبين له انه بيكررها أكتر من اللازم و فيما يشبه الاعتذار تشرح له انها مابتقولش كده عشان نفسها لكن لأنها بتبقي “في نص هدومها” قدام الضيوف و هو بيقول أعتقد بين كل كلمة و التانية و هو بيقول لها : معاكي حق طبعا و مابيقوللهاش انه يعتقد ان قلبها اسود.
كبر الولاد و اتجوزوا واحد بعد التاني و فضيت الشقة عليهم رغم الزيارات المنتظمة و بقت أمهم تنام في أوضتهم كل ليلة علي سرير واحد منهم بالتبادل و تمسك فيهم يبيتوا لما ييجوا يزوروهم و هو ماتبسطش من كده و كان بيقول لها اللي يبيت يبيت و اللي مايبيتش ما يبيتش . في التعب الصحي و بدأ التردد علي المستشفيات و أخبار موت المعارف اللي ممكن يكونوا أصغر مننا في السن بنوصل ل قلب المرحلة و ننط 4 فصول و نوصل ل “أبيض و اسود” عن موت الرفيقة الهادي و المفاجئ رغم انه كان بيهيأ نفسه له في فصل سابق لما لاحظ مرة انها ماتقلبتش لفترة طويلة و هي نايمة في أوضة الأولاد. الموت رافقه موقف طريف لما كان بيتفرج علي فيلم قديم و رن جرس التليفون في الفيلم و هي من سريرها قالت : حد يرد علي التليفون يا ولاد و عباس فارس قام رد علي التليفون و هو ضحك و قام يقول لها ان عباس فارس سمع كلامها و رد علي التليفون لقاها ماتت . عم ابراهيم حكي الحكاية دي 3 مرات علي الأقل و هو مصمم انه كل مايحكيها ل حد يلقاه مشغول بحديث تاني ف مابيحاولش يعيدها و بيحتفظ بيها لنفسه ! و لو حكاها 10 مرات كنت هاقراها كل مرة بنفس الشغف . هنا – عشان حاسس اني طولت -مضطر انط لأجمل حكاية قرب آخر الكتاب و دي حصلت في “زقاق جانبي” في امبابة اللي رجع قعد في شقته القديمة فيها بعض الوقت بعد موت المرحومة لما كان رايح يصلي الجمعة و شاف واحدة ست قاعدة علي بسطة سلم بيتها و بتأكل فراخها من لقمة عيش بتفتفتهالهم و لفت نظره فرخة بني فضل يتابعها بتركيز لفت نظر الست و راح صلي و رجع يبص علي نفس الفرخة و بعدين ابتدا حديث طويل مع الست بدأ ب : نهارك سعيد يا هانم و بعدين سألها اذا كانت مربية الفرخة دي و هي لسه كتكوت و هي قالت له انها تعرفها من ساعة ما كانت بيضة و فقست عندها و بعدين شرحلها سبب متابعته للفرخة دي بالتحديد و هو ان الحاجة ( أمه ) كان عندها كتكوت شبه الفرخة دي بالظبط و خرج و ضاع و مالقيوهوش و انه كده اتطمن و هدي لما عرف .. و سألها اذا كانت اتضايقت لما سألها عن أصل الفرخة و شرحلها انه بعد موت المرحومة قرر يسأل السؤال اللي يخطر علي باله بدون تردد ولا تأجيل مع انه قبل كده احتفظ لنفسه بأسئلة لمدة أكتر من ستين سنة و ان ده كان غلط و الست هاودته بس قعدت مستنية حد يعدي عليها عشان تحكيله حكاية الراجل الغريب العجيب ده . دي تقريبا القصة الوحيدة – بجانب جزء من قصة الرجل الذي كسر الطبق – اللي ماحصلتش و رغم كده هي أصدق و أدق من باقي القصص اللي حصلت أحيانا بحذافيرها ( بتحتوي علي واحد من أهم أعراض التقدم في العمر و هو عدم التحرج من تغيير عادات و طباع تمسكنا بيها طول الوقت الي الضد بمنتهي السهولة ) و ده جمال الادب و سر سبقه للعلم في صميم تخصصه و عقر داره أحيانا.
و بهذه المحاولة اللي مايهمنيش كتير لو فشلت في صيد عصفورين بحجر واحد (1) التعريف بأدب ابراهيم أصلان (2) مواكبة سلسلة مقالات لمياء النحاس عن أواخر أيام الانسان أو أعوامه أودع الرجل الجميل اللي أدخل كتير من البهجة و الخبرة و المعرفة و التواضع في عقلي و حياتي.





برقيات وردية ليل إبراهيم أصلان… بقلم جمال عمر

27 06 2022

العدد الأول من مجلة تفكير

       "جبال الكحل تفنيها المراود" هكذا يفتتح عم إبراهيم أصلان وردية ليله، أمام دار القضاء العالي، عابراً شارع 26 يوليو ذا الاتجاهين. عم ابراهيم حامل الرسائل وباعث البرقيات، وفي ارسال البرقية تدفع على كل كلمة، فتحاول أن تقول أكبر قدر من المعاني والأفكار والمعلومات بأقل عدد ممكن من الكلمات، فبلاغة الكتابة هي بلاغة "ما قل و دل"، بلاغة ليس فيها الكلام "ببلاش" بلاغة لم تعد المعاني فيها "ملقاة على قارعة الطريق" فقط.

هكذا تصورت عم إبراهيم أصلان يحاسب نفسه على كل كلمة وكأنه يدفع عليها فلوس حين يكتب. هذا بعكس الكتابة في الصحف وفي المجلات حيث تقبض بعدد ما تكتب من كلمات. لكن مع أصلان الكلمة غالية، الكلمة لها عزة. مما يجعل نصوص إبراهيم أصلان تحتاج إلى تدقيق وإلى رهافة وصبر وإلى طولة بال، فلا تغتر بما تصل إليه في أول قراءة أو الثانية ….

-2-

اتصلت بي منفعلة، رغم أننا اخترنا كتاب “وردية ليل” ليلة أمس فقط ومازال هناك اسبوعان على لقاءنا للنقاش. فقد قرأتْ النص في ساعة زمن، ومستاءة من الرواية، فالبطل غير مرتبط بشيء ولا بالأشخاص بروابط، وأن روحها قد انقبضت من النص، وعدم وجود أمل، وقالت: “ليش كل هذا ؟”.
في بيت جدوا كانت تنتظر منذ السابعة، وأنا حضرت في الموعد. بعد تهانينا بسقوط الرئيس في الانتخابات، ليصبح رابع رئيس في تاريخ البلاد يقضي فترة حكم واحدة. وكان الجرسون مشغول، فلم يعراهتمام لحضوري وحضور صاحبتنا الأخرى، التي حاولت أن تدافع عن قدرة الكاتب على رصد الأشياء الدقيقة، ومثال لذلك المشهد الأول فستان التيل، وهي كما تصورت لم تقرأ الكتاب، لأنها تفضل ان تقرأ الكتاب ورقي، ولم تتحصل على نسخة. وقد قرأت فقط المشهد الأول، على تليفونها، وقد كنا تناقشنا حول المشهد أنا وهي مرة، منذ سنة.

-3-

جبال الكحل، لهذا الليل، ليل وظيفة الموظف، الذي يُفتتح من شارع ستة وعشرين يوليو، والذي كان شارع للملك فؤاد الأول، وأصبح شارع تاريخ تنازل الملك عن العرش ثم خروجه يوم 26 يوليو، ويوم تأميم شركة قناة السويس، فجبال كحل هذا الليل يمكن أن تفنيها مراود، عبر إبراهيم أصلان مرود مرود، ومشهد مشهد.
فمن خلال خمسة عشرة مشهد، في ما يقرب من سبعة آلاف كلمة فقط، ظل يكتب فيها من سنة خمسة وثمانين حتى سنة واحد وتسعين، يرسل أصلان برقيات عن أربعة عقود من هذا الليل. منهم برقية طبق الأصل من طلعت إلى ليلى المصرية، المحبوسة في سجن النساء بمكة، في منتصف السبعينات، بنصها.

-4-

في المشهد الأول من عملية إفناء جبال كحل هذا الليل وورديته، يُقدم أصلان مشهد “فستان التيل”، العامل بالمشرب يقطع اللحم، والفتاة ذات العيون الواسعة وخرزتها الزرقاء، وفيلمها المعروض أمام مدخل السينما، مع إعلانات عروض الأفلام بالداخل، وحوار سليمان معها. تحاول هي أن تأخذه لفيلم الداخل، لكنه عنده شغل، وهو يحاول أن يأتي لها بنسخة من جرايد بكره، وهي ترفض، ثم توافق، وهو أيضا في عبوره في الطريق ذي الاتجاهين يتمهل “على الرصيف الضيق الذي يفصل بين الاتجاهين ومضت فترة أخرى من الوقت ثم التفت”، لان الطريق رايح جاي، وليس في اتجاه واحد. ليعود في المشهد الأخير؛ “رؤيا” ويتذكرها ضمن ما يتذكر، الذكريات التي يعقبها بكلمة:”يا للخسارة”.
في المشهد الثاني: تأهيل، يتوقف أصلان أمام عمل عادي يمر علينا، وهو عملية إيصال برقية تلغراف ويلقي عليه ضوءه ليكشف خطورة هذا الفعل واسطوريته، فهذه هي المرة الأولى التي سيدعه العم جرجس الذي يدربه، يسلم “فيها برقية بمفرده”. فخلال ثلاثين عام مات اثنين من عم جرجس، وهو يسلمهم، وده انجاز. فالعم بيومي رئيس الوردية في فترة خدمته “مات منه سبعة”. وقبل منه “الاسطى قدري الإنجليزي مات منه تسعة” وتفسير عم جرجس أن “الناس زمان كانت قلوبها خفيفة خالص”.

-5-

في المشهدين الثالث و الرابع: “الدُرج” و “عام سعيد للسيدة”، تظهر العلاقة مع الآخر الإنسان الأجنبي، فنجد أسماء ” الخواجة شفال” و “الريس ماكميلان” و “أنجلو الشاعر” والسيدة اليوغسلافية وزوجها المناضل الذي كان يحبسه عبد الناصر وقت زيارات رئيس يوغسلافيا “تيتو” للبلاد. دقة أصلان في إظهار الجمال من تصميم مفتاح درج رئيس الوردية إلى مقدمة الدرج المصنوعة من خشب الجوز، بخلاف درج الحريري الذي سنعرف فيما بعد أنه معدني. وخشب الأرضية الذي يزيق حين يقف العم بيومي بقامته، هذا الدرج الذي “كان عميقا على نحو غريب يمتد بعرض الطاولة”. فالدرج العميق ومحتوياته وعم بيومي رئيس الوردية بثقل “قامته الكبيرة الهرمة”، يمثلان عمق التنظيم والتأسيس الذي كان للوظيفة وللموظف، في التلغراف الدولي، الذي يصل البلاد بالعالم. وكذلك شارع زكي الذي أصبح “كله مافيهوش مكتبات”، والمكتبة التي كانت تحت بيت الخواجة اليوغسلافي وزوجته صاحبة البرقية قد تحولت لمحل لبيع لوازم السيارات.
في المشهد الخامس “مصابيح” يضيء لنا خلفيات عن الشخصيات، فرئيس الوردية “بيومي كان سياسيا قديما” و العم جرجس “يعيش طول عمره مع زوجة غير التي أرادها، فقد أحب فتاة وخطبها ولكنهم في ليلة الدخلة بدلوها بشقيقتها الكبرى”. والحريري يحب محمود لأنه يحب عبدالناصر، الحريري الذي حارب في سبعة وستين ولا يحب أن يتكلم عنها ولا يتذكر أي شيء عنها ويقول: “عبد الناصر كان شريف ووطني لكن مش بإيده”.

-6-

المشهد السادس؛ “نوافذ” والسابع؛ “النوم في الداخل” والثامن؛ “كوب شاي”، والتاسع “الصاحبان”، يرصد فيهم النص التغيرات التي حدثت على المجتمع، من النوافذ التي تراقب، أو من المراقبة الداخلية كما في كوب شاي، وشعوره أن هناك من يتبعه، ليرى من النافذة وهو يشرب كوب الشاي الساخن الذي لسعه “تلك المساحة الكبيرة الممتلئة بعربات الأمن المركزي والجانب الآخر من جريدة الأهرام”، وما زلت متحير في هذه العلاقة بين عربات الأمن المركزي وبين جريدة الأهرام وهل أضيف من عندي بين الأمن المركزي وبين الديسك المركزي بجريدة الأهرام؟
الحجرة التي يتأهل فيها سليمان مع عم جرجس وطبيعتها وذكرياتها والفارق بين عم بيومي ودُرجه العميق، وبين الحريري ودُرج طاولته المعدني. والفارق بين بنطلون محمود الضيق، وبين بنطلون الحريري، أبو أشرف؛ “الرمادي الكالح الذي تدلى حجره الواسع بين ساقيه القصيرتين. هو فارق بين مرحلتين.
ومشهد “النوم في الداخل” فصاحب المحل الذي ينام في محله وجِدت جثته معلقة لكنه “كان يعطينا ظهره” ورغم أن “حذاءه البني” نظيف، بخلاف الأحذية البنية القديمة لصاحبة الفستان التيل، وحذاء الحريري البني القديم، فقد وجدنا جثته في الداخل. وتقريبا معطفه يلبسه شخص “حافي القدمين ممتلئاً ويرتدي معطفا ثقيلا من الوبر الكثيف” فلابس المعطف وصاحب المحل كلاهما نائم في الداخل.
وسليمان يحب هذه الأشياء الدقيقة التي تخطف نظره في السوق ويخاف أنه “لو عاند نفسه ولم يأخذها فإنه سوف يأتي يوم الجمعة التالية إلى السوق باحثا عنها وهو يعرف أنه لن يجدها، فلا يجدها، حينئذ يحس بالخسارة ويظل طول الوقت يذكرها ولا يعرف كيف ينساها” وهو “صادف اليوم شيئا من الأشياء التي لا يمكن تعويضها ومع ذلك لم يأخذه…….ان السوق لم تعد هي السوق والأيام لم تعد هي الأيام.” ورغم أنه قرر أن يكف عن شراء “هذه الأشياء اللعينة” ولكنه عاد “مرة أخرى أراد أن يجرب حظه”.

-7-

وعبر ثلاث مشاهد يعطي نماذج من برقيات البشر فهو :”عبر حاجز من زجاج” يكشف عن كيف يحول تعبيرات البنت هدى من لغتها الحية إلى لغة أخرى للكتابة، لغة المثقفين، ولكنه برقته يكتب واحدة من أقصر القصص: “لا تنتظرني، تزوجت. هدى”.
وفي المشهد الحادي عشر؛ “يوم آخر” يُلّمح إلى تلك الكراسي الدوارة، وإلى تلك “المجلدات اللاتينية” التي “لا يمكن حتى لمن كان في مثل عمره وخبرته أن يستغني عن تقليب أوراقها” وكيف أن هذه المجلدات يضعها أصحاب المقاعد الدوارة تحتهم “لكي تجعل هؤلاء الزملاء أكثر علوا في مواجهة العملاء.
بل أن المشهد الثاني عشر هو برقية طبق الأصل من منتصف السبعينات من طلعت إلى ليلى المصرية في سجن النساء بمكة.

-8-

في المشاهد الثلاث الأخيرة يظهر عامل الزمن والوقت على سليمان في طلوعه سلالم المدخل في “السلالم” ومحمود “القزعة” صاحبه الذي التحق للتدريب في نفس الوقت، والبنت التي كان يحبها محمود وهي الآن “المرأة آسيا، حزينة، وصامتة”، وفي المشهد الرابع عشر؛ “دموع” يصور تأذين الحريري بكلام غير مفهوم للصلاة في الواحدة بعد منتصف الليل.
ليرسم إبراهيم أصلان رؤيا في نهاية العمل، في لغة كلها صور شعرية وبها سحر. حيث “لم يعد بوسعي هذه الأيام أن أبقيها مفتوحتين دون حرقة ودون دموع” ولم يعد هناك مكان لكحل ولا لمكحلة. ويتصور أنه يشعل نار تحت شجرة تحتلها العصافير.

-9-

من مشكلات قراءة أي مجموعة قصصية، أن كل قصة فيها هي نص مكتمل، فكأنك تصعد جبل ثم تنزل لتصعد جبل آخر، ورغم صغر كل جبل فإن تعددهم مرهق جدا نفسيا. والأمر هنا مع نص وردية ليل لعم ابراهيم أصلان، أن هذا الشكل الفني شيء آخر بين مجموعة قصصية وبين نص سردي روائي، ويضاعف من الصعوبة، طريقته البرقية في الكتابة، حيث كل كلمة من الصعب أن تحذفها أو تستبدلها إلا واختل البناء الفني للعمل. فهذه السبعة آلاف كلمة آخذت ست سنوات لكتابتها متفرقة.
في جلسة النقاش معهن حاولت أن أبرز هذه الملاحظات السابقة، لكنني أحببت أن أشير إلى إختلاف دقيق هنا عن العمل السابق الذي قرأناه “موسم الهجرة إلى الشمال”. حيث الوعي هنا هو وعي المدينة وليلها، المدينة حيث الإنسان الفرد، ووجوده يتمثل في تفرده، فيما يميزه عن الآخرين، رغم كل عمليات التنميط التي تطبعنا بها نظم المدينة، فابراهيم أصلان يُركز على إبراز التفرد الإنساني في كل ما هو يومي وعادي وأمامك في طريقك، ويستطيع أن يحولها إلى سحر، وأسطورة، سواء إيصال برقية لعميل، أو مجرد التشخير نائما وحديث الأولاد والزوجة عنه معك. أو الذهاب للسوق وهو في طريقك. إبراهيم أصلان فنان تشكيلي يرسم بالكلمات، وجواهرجي يصيغ نصوصه مجوهرات دقيقة وصغيرة، حتى رغم أن السوق لم يعد هو السوق ،لا حتى الأفلام المعروضة هي أفلام، ورغم أن شارع ستة وعشرين يوليو رايح جاي، ظل أصلان يرسم الكلمات، ويحاول أن يفني جبال الكحل في ورديته الليلية، لعل نهار يأتي.





لماذا نخشى من التعددية في دراسة علوم الدين… بقلم دينا حمدي

16 06 2022

العدد الأول من مجلة تفكير 15

فى بداية الأمر نحن على اقتناع تام بأن الحوار بين الأديان أو الثقاقات تتيح لنا فرص إيجاد حلول جديدة ومشاكل واقعية بحسب محدثات كل عصر.
ومن ثم التبادل الفكري المشترك فى كافة العلوم والمسائل العملية كان علينا أن تتطرق هذه الدراسات الى القيم الانسانية ودراسة الدين من وجه نظر معارض ومؤيد وتحقيق الاستفادة من هذه الدراسات دون المساس بمضمون الأحكام وعلى كلا من الطرفين وتقبل الرأي الأخر دون تعصب
وعلى اساسه بدأ أفراد من المستشرقين بدراسة تاريخ علوم الدين مثل نولدكه الذي كان من مؤيدى فكر أن العلم والدين يعملان معا من أجل إنشاء عقل واعى مفكر وليس مبرمج من التراث وقد قام بدراسة علوم الدين وأخذ دور التلميذ قبل المعلم.
وبالمثل أيضا نرى ما قام به الانجليزى روبرت الكتونى بطلب أول ترجمة لاتينية كاملة للقرآن الكريم ومن ذلك المنطلق ترجم القرآن الكريم إلى لغات عديدة الانجليزية والايطالية والالمانية مما أدى إلى انتشار هذه الدراسات بمختلف اللغات وتوسيع دائرة لغير العرب لمعرفة القرآن وتاريخه وعلومه.
وعلى الرغم من أن معظم هذه الدراسات كانت ثمار جهود فردية قام بها علماء حبا للتعرف على جمال لغة الشرق ودمج بينها وبين الطابع الإلهي
أصبح الموضوع ذات نظرة مشوهة عندما تدخلات الأغراض السياسية بعد الاستعمار ودخل الحكم السياسي في مسألة الدين ثم الهجوم على المسلمين وانتقلت الدراسة من نشر فكر ووعي للانسان إلى وسيلة تستخدم فى أغراض سياسية ودينية ومحاولة صميمة لتشويه صورة الدين
ولما كان القرآن مشتملا على آيات متشابهات وأخرى محكمات كان من الطبيعى أن يختلفوا فيما بينهم في التفسير مجموعة أخذت بظاهر التنزيل ومنهم من لجأ إلى التأويل ومن هنا ظهر الخوارج على أثر الخلاف بين علي ومعاوية وفي مقابلهم الشيعة فكانت الشيعة تنادي بوجوب التأويل وكذلك المعتزلة إلى أن جاءت الأشاعرة كمعتدلين بين الظاهرية والمعتزلة. والجمع بين التمسك بحرفية النصوص القرآنية والمؤولين لها.
وأما الذين اشتغلوا بالفلسفة من الشيعة فقد ألفوا جمعية سرية تحت اسم (رسائل إخوان الصفا ) ثم نشأت طائفة أخرى تطرفت فى مذهبها هم أهل الظاهر من الفقهاء وادعوا أنهم خافوا على الدين من الفلسفة فحملوا حملة عنيفة فى الشرق والغرب على الرغم من أن الفلسفة في العصور القديمة كانت بسيطة خالية من الأنانية ومن التعصب الفكري لصالح منظومة ما وكانوا يدعمون السمو الروحى ودعوة للعقل. أما الأن فقد أوقفت الفلسفة مباحثها على تزويد العلم بحاجته من الفروض العلمية والرياضية التي يدعم بها نظرياته المادية البحتة.

ولما انحط أهل العلم وتدخلات الأغراض السياسية حادوا عن غاية العلم الحقيقية فخدموا بعلمهم الأهواء والمطامع البشرية وأصبح العلم ينبوعا للشكوك.
ومن وجه نظرى أن القرآن الكريم يؤيد لأحكام العقل ومحاربته للجمود الفكري والتقليد الأعمى وفتح أبواب التعقيل والتدبير ولحرية الفكر.
( وإذا قيلَ لهُم اتبعوا ما أنـزل اللهُ قالوا بَل نتِّبع ما ألفينا عَليه آباءنا )
ومعرفة الحقيقة المطلقة هي صفة فطرية في الإنسان خالصة من التشبيه التمثيل والحلول والاتحاد .
لكن شتان ما بين هدى الوحي وفحوص العقل هو أن الوحي يهبط من آفاق لا يمكن للعقل استيعابها او التحليق حولها لان النظر الى الطبيعة والتدبر في آيات الله على مذهب قرأن بفكر وقلب وفطرة سليمة يؤدي الى النظر الى ما وراء وفوق الطبيعة دون التشتيت والشطحات العقل المجردة من وجود مذهب سليم للسير عليه
لذلك نجد أن العقل يصلح للمحاسبة والمفاضلة وأن في الشريعة الاسلامية إذا تعارض حكمان بين العقل والشرع أول ما فى الشرع لرفع الحرج، وأن الدين وحي إلهي هو لغه السماء وغذاء للروح فكيف نريد أن نبنى دراسة الدين على الفلسفة والعلم والمناظرات التي هي من صنيع البشر.
لذلك أرى ان لم يتم إنزال كتاب مجمع في عهد رسول الله لسببين :
أن الأديان السابقة للقرأن الكريم هى مقدمة لذلك الكتاب المحكم وفي ذلك مراعاة للوعي والفكر والبيئة المحيطة والأحكام والشريعة والنص.
ان الله لم يأمر بجمع القرآن وإنزاله في عهد رسول الله ليدعو الناس إلى التأمل والتمعن والبحث والتعلم واتصال القلب بالله وعدم التقيد بصورة مادية تحجب الإنسان عن معاني الروح والتقيد بالنص مثل ما يحدث اليوم .
وأن أرى أن هذه الاختلافات في التفاسير جاءت لصالحنا ليست ضدنا فلولا هذه الاختلافات ما كنا وصلنا وعرفنا وشاهدنا القرآن من جميع زواياه سواء كان معنى ظاهري – باطني / مجمل –مفصل / ناسخ – منسوخ /
رؤيته من منظور شيعي أو من منظور صوفى .
أرى أننا نأخذ من نتائجهم ما يوافق فكرنا والظروف المحيطة بنا
فإننا يجب أن نتعامل مع هذا الكتاب كخطاب وليس كنص لأن عندما حكمنا على القرآن كنص دخلنا فى صراعات عديدة ومن هنا نشأ التعصب وتضارب الأفكار والتأييد لمنظومة بعينها وفقدنا القيمة الحقيقية وغاية الرسالة المبعوثة
فأنى من مؤيدى فكر أ / نصر أبو زيد فى منهجيته وأطلق مصطلح القرأن الحي
حتى تبقى رحلة البحث لنا جميع مستمرة منذ الأزل حتى قيام الساعة
فكل البشرية ماهى الا خلافة يخلف فيها اللاحق السابق للمساعدة فى البناء ومن ثم نساعد بعضنا على وضوح الصورة الكلية بشكل أفضل
أن العقل والإيمان توأمان فلا دين بدون عقل ولا عقل بدون دين
فعندما يفقد الإنسان هاتين الصفتين فقد فقد نفسه ولا يعد له وجود مميز الذى يستحق به التكريم والخلافة فى أرض الله .

ومن ثم غاية كل الكتب السماوية دعوة الإنسان لاكتشاف والمعرفة والتوحيد ووضع قواعد عبادة الله ومعرفته





عن توتر القرآن بقلم شادي المصري

14 06 2022

العدد الأول من مجلة تفكير 13

مجلة_تفكير1#

مقدمة البحث

:

يكشف البحث نظرة كاتب المقال في كيفية الخروج من الأزمة التي تواجه قارئ القرآن حين التعامل مع التفسيرات والتأويلات التي يشوبها الكثير من الاضطراب والتناقض بين ما هو عقلي إنساني وبين ما يُفهَم بطريقة خاطئة نظراً لعوامل تاريخية وثقافية وبنى معرفية ولغوية تسببت في عمل إشكاليات لا تتناسب مع عصرنا الحالي بل وتجعلنا في موضع الإتهام الدائم لما نحن عليه من مفاهيم غير عقلانية أو إنسانية في بعض الأحيان!
وكاتب المقال يبني على ما ذكره صاحب كتاب ” توتر القرآن ” من توصيف لسبب تلك الأزمة التي نعيشها في عالمنا العربي وكيفية الخروج منها بالنظر لهذا النص المقدس لدى ما يقرب من 2 مليار مسلم ويكون سبباً قوياً في الإصلاح الديني بإعادة النظر في الأسس المعرفية لإستنباط مفاهيمه وأفكاره وتجديد بل ووضع قواعد جديدة خاصة بنا تقوم على العقلانية والإنسانية والنظر إلى التراث نظرة تاريخية لا تعدوا وقتها ولا تتجاوز وتتعدى إلى عصرنا الحالي، وعدم الخشية من فتح باب الإجتهاد مرةً أخرى والدعوة إلى تعددية الرؤى بكل حرية وبصورة تحترم حق كل فرد في قراءة هذا النص وعدم احتكار مجموعة معينة له وإستخدامه كسلطة لقمع الحريات!

‏عرض الكاتب المتميز جمال عمر في كتابه “توتر القرءان” المشكلات التي واجهت المفسرين في محاولات منهم للتخلص من التوتر الحادث الذي قد يصيب القارئ من الوقوع في ما هو يشبه بالتناقض والتعارض ما بين المفردات والكلمات والآيات والسور القرآنية مع بعضها البعض وبين ماهو سائد من وقائع تاريخية وروايات وأحاديث منسوبة للنبي كوحي موازٍ ونصوص أخرى تتفاعل مع النص الأصلي ( المصحف ) !
وتناول بحثه جميع الجهود الحثيثة المتوالية منذ العصر العباسي إلى يومنا هذا بتوصيف المناهج الفكرية المتميزة في طريقة عمل واستنباط المفسر ومنهجه في بناء قواعده المعرفية لتأويل النص بغض النظر عن ما توصل إليه من نتائج كي يضع يد القارئ على كيفية عمل العقل العربي في التعامل مع مناهج البحث في قراءة النصوص.

‏فلذلك أحببت أن أبدي بعض المحاولات التي قد تضاف إلى كتاب توتر القرآن لعلها قد تسهم في عرض المزيد من نقدي للموروث وبيان المأزق الذي وضعه التراثيون لأنفسهم في التعامل مع هذا النص مما زاد من حدة توتره بدلاً من تخفيفها وتهدئتها !

أولاً: ان الاعتماد على الروايات التاريخية في نزول وجمع المصحف في زمان ومكان وبيئة جغرافيه معينه يجعل القارئ محصور في إطار معين لا يستطيع الخروج منه بل ويجعله يركز على دراسة تلك المرحلة اجتماعيا وثقافيا لعله أن يجد ما يشفي غليله في فهم تلك النصوص التي نزلت في هذا الزمان وهذا المكان وأسباب ومسببات نزولها !

فلماذا يفترض أن هذا النص نازل في هذا التاريخ مع أن النص نفسه لم يذكر ذلك؟ ولماذا نتقيد بدراسة بيئية زمانيه ومكانيه معينة في حين أن هذا النص يمكن أن يكون نزل قبل ذلك الزمن او كما قد يقول البعض قد يكون قائل النص وهو الله سبحانه جل وعلا كلامه خارج الزمان وخارج المكان، بمعنى أنه يخاطب كل إنسان في أي زمان وأي مكان لأنه يحيط بكل شيء والحق مطلق أما الزمان والمكان هو نسبي فيمكن ان يكون خطابه هذا يشتمل ويمتد إلى كل إنسان في كل زمان ومكان، كنص من نصوص الحكمة التي لا تنحصر وتضيق عن الغايات السامية والإدراكات العميقة وتتنزه عن السطحية في أطروحاتها وتوجيهاتها.
وبما أن النص هو كلام الله فهو يحمل صفات الذات الالهية التي هي أزلية في القدم ابديه في الاستمرار وهي كنصوص الحكمة النظمية التي تتجاوز الزمان والمكان والأشخاص والحوادث، فهو خطاب يصلح للانزال أو الإسقاط على الواقع المعاش حالياً وفي كل زمان ومكان بما يثبت أنه نص حي حيوي ديناميكي وليس مختص بقومية وبيئة زمانية أو مكانية معينة.

فالاعتماد على روايات وأحاديث خارجة عن النص الأصلي ليس من الموضوعية في النقد والبحث، بل ينبغي محاكمة ونقد هذا النص بما هو فيه وسياقه الداخلي وليس السياق الإصطناعي المنسوج نسجاً من وحي خيال بشري جاء بعد عدة قرون من عصر التنزيل مما يجعلنا أن نشكك في مدى مصداقية السياق التاريخي الموضوع لهذا النص والزعم الغير تاريخي وغير العلمي لفرض زمان ومكان وأقوام معينين وحصر هذا النص عليهم بما يجعل القارئ محصوراً في مشاهد وأزمنة وأمكنة محددة يصعب معه التنصل منها حين قراءة النص فيقيد ملكات التفكير للإستفادة الآنية والواقعية على القارئ المعاصر!

وعلى الأكاديميين والمفسرين والنقاد أن يدرسوا هذا النص مجرداً وبعيداً عن كل تلك النصوص والأطروحات والتأويلات التي حامت حول النص وألقت بشبهاتها عليه بل وأصبحت تمثل الركيزة الرئيسية التي نبني عليها رؤانا وتصوراتنا بدلاً من رفع تلك القواعد من البيت التراثي وإزالتها بالكلية وخلع ما علينا من موروث وحجاب جمعي غطى على كل تلك الأنوار الساطعة، وفي نفس الوقت النظر إلى ذلك التراث على أنه يمثل الأرضية المعرفية لهم وهي اجتهادات خاصة بعصور سابقة مضت وتولت إلى غير رجعة، وعلينا نحن أن نجتهد أيضاً لعصرنا كما اجتهدوا هم لعصرهم ولا نأكل التراث – المعرفي والفكري – أكلاً لمّا ثم نتجشأ ونقول ” إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ” !!

وأزعم أن الأقدمون كانوا ينظرون إلى هذا النص أنه قصصي فني رمزي ولذلك كانوا يتعاملون معه بأريحية وبنفس الطريقة التي يحاكيهم هو بها.. فيحاكونه ويحاكون أنفسهم وينسجون قصصاً وإضافات وحبكات درامية للتشويق والإثارة كنوع من أنواع التسلية والسمر من وحي خيالهم الخصب وخدمةً لأغراض ومصالح يريد القاص ( كابن إسحاق في سيرته ) والزهري – الذي كان يعمل في بلاط الحاكم – كوسيلة إعلام خاصة بنظام الحكم في ذلك الوقت وأبواقاً تعكس البيئة الثقافية والفنية والإجتماعية والسياسية لهم ليس إلا ثم إذا بنا ننظر لهم بعد مضي وقت بعيد بنظرة مقدسة معصومة وكأن كل ما قالوه خرج من فم إله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؟!!

ونصوص الحكمة في الغالب الأعم تتجاوز الزمان والمكان وتخاطب نفس الإنسان وتترقى به ولا تغوص في تفاصيل حياته ودقائق معاشه بل يغلب عليها طابع التوجيهات العامة والهدي الإنساني الذي يصعب على البشرية أن تختلف عليه على اختلاف ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم بل هي تحترم تلك الخصوصيات وفي نفس الوقت ترتقي بالحريات والعقلانية والإنسانية وتخاطب الوجدان وتقاوم الزيف والكذب والخيانة والوهم والخرافة كي لا تتملك من الإنسان وتجعله يتملك نفسه ويتحكم بها ولا يخضع لغيره أو أن يكون عبداً لأحد كائناً من كان سوى عقله وإرادته الحرة !

عامل آخر:
وبالانتقال إلى عامل مهم آخر أثر تأثيراً بالغاً في زيادة التوتر والاضطراب في فهم هذا الكتاب وهو اللغة العربية التي وُضِعَت قواعدها وأسست مناهجها وفسرت معاجمها مفردات هذا النص، وهذا ما فعله سيبويه والخليل بن أحمد الفراهيدي في توصيف اللغة التي تحمل في طياتها الحالة النفسية والمزاجية والثقافية والعادات والتقاليد والأعراف وتُسقِطها إسقاطاً متعمداً بقصد أو بدون قصد على كلمات القرآن الكريم ، فهل من الموضوعية أن تكون لغة العصر العباسي التي جاءت بعد عصر التنزيل بعدة قرون أن تعبر عن المعنى المراد في عصر التنزيل؟!! وهل نحن ملزمون بدلالاتهم التي استخدموها إصطلاحاً مع أنفسهم وتوافقوا عليها ؟!! وهل يتم التعامل مع مفردات القرءان بطريقة ظاهرية حرفية تتطابق فقط مع تلك الدلالات والمعاني التي وضعها صاحب المعجم وهو يعلم تمام العلم أنها مفردة مذكورة في المصحف ولم يكن غافلاً حين وضع لها ذلك المعنى بل أزعم أن تلك المعاني جاءت بالتحريف كما حدث بالضبط مع الروايات والأحاديث في التلاعب بها بزعم أن نياتهم ومقاصدهم حسنة فلا حرج في ذلك ؟!! فهل سنظل أسرى تلك الدلالات والمعاني التي فرضوها علينا فرضاً ؟!! هل هؤلاء البشر معصومون ١٠٠٪؜ بحيث لا نستطيع الخروج من تلك الدلالات التي لا تتناسب مع ثقافتنا الحالية وتخالف العقل والمنطق بل وتنتهك الحريات والقيم الإنسانية العليا ؟!!
لماذا لا يكتفي الدارس لهذا النص بسياقه الداخلى ويكتفي بطريقة إستخدام قائله للحرف والكلمة والمفردة والجملة والعبارة كما يدرس النقاد أسلوب وطريقة أي كاتب لنص أدبي وأسلوبه الخاص المتفرد في التعبير عن أفكاره ؟!! هل من الموضوعية أن يخضع قائل النص للمتلقي وللناقد بحيث أن يزعم القارئ والمفسر أن ما فهمه هو مراد الكاتب وكأنه يعلم ما في نفس القائل ومطلع على الغيب وما بين السطور والصدور ؟
لماذا ندعي اليقين والعلم الكامل المطلق في أمور تكاد أن تكون نسبية تختلف من شخص لآخر ؟ لماذا نريد أن نؤطر الناس في إطار واحد موحد ونتسلط عليهم ونتحكم بهم بزعم أننا نمتلك الحق المقدس والحقيقة المطلقة ؟ لماذا لا نحترم التعددية وحق كل إنسان المطلق في تحديد خياراته ومفاهيمه طالما استنبطها هو باجتهاده ولم يفرضها على أحد سواءاً كانت مطابقة للآخر أم مغايرة عنه ؟
لماذا لا تكون المقاصد العامة هي الحرية والمنفعة لكل الناس والابتعاد عن كل أشكال الضرر والأذى ؟ تساؤلات عديدة تشغل ذهن الإنسان حين يتفاعل مع هذا النص والتركيز على غاياته السامية ومقاصده الإنسانية النبيلة !!
هناك سامريون في كل عصر يأخذون قيم الحق والعدل والحرية والرحمة كقيم إنسانية عليا مطلقة ويحصرونها ويضيقونها في عجالة (عجل) بالتجسيد فتصبح صغيرة ضئيلة.. نعم لها خوار وأبواق تنعق بها ولكنها خواء لا قيمة فيها لأنهم سطوا على معانيها العميقة بصورة سطحية هزلية مقيتة، وهذا ما حدث بالضبط مع النص القرآني بإلقاء وإسقاط معاني جنسية تعبر عن هواجسهم وهلاوسهم النفسية حينها وجعلنا نتعبد مثلاً بإزدراء المرأة وانتقاص حقوقها بل وضربها وقتل نفسها معنوياً بصورة أكثر بشاعة من قتلها جسدياً، ويحرفون ويحولون المعاني والدلالات المعنوية المعرفية الرمزية القيمية إلى تماثيل وأصنام بتجسيدها في ماديات إسمنتية تُخرِج النص من جزالة أسلوبه الحكيم الرصين إلى سطحية وضئالة ثقافة الأعراب الهمجية في ذلك الوقت !!!

كلمة ختامية :
ولذلك أرى أن الكاتب جمال عمر ساهم إسهاماً غاية في الأهمية في وضع توصيف لمناهج التأويل وكيفية وطريقة تفكير من تناولوا واهتموا بهذا النص وأزعم أنه ساهم بطريقة غير مباشرة في الخروج بحلول للأزمة التي يعيشها العقل العربي في بنائه المعرفي القائم على الاجترار، وكما يقولون بداية التغيير هو أن نقتل القديم بحثاً وفهماً ودرساً – وهذا ما فعله الباحث والمفكر والناقد جمال عمر – كخطوة أولى بارعة ثم نقتله مرة أخرى باجتناب ما لا يتناسب معنا الآن ونقرأ القراءة الآنية ( آن ) بأدواتنا ( الآن ) ثم ننتج ما يفيد أمتنا وحضارتنا الإنسانية العظيمة ونعلي من قيم الحق والعلم والمعرفة والعقلانية والحرية والعدل والرحمة لكل من على ظهر هذه الأرض الطيبة.





المحكم والمتشابه دراسة تحليلية بقلم أحمد خفاجي

13 06 2022

العدد الأول من مجلة تفكير 13

مجلة_تفكير1#

هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) آل عمران

مقدمة

النواة الصلبة للثقافة العربية هي القرآن. و النواة الصلبة للقرآن هي اللغة.
و قد أكد القرآن في أكثر من موضع على عربيته بطريقة دفعت البعض للتساؤل: ما سر هذا الإلحاح القرآني على بيان أمر بدهي من قبيل “وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه”؟
هنا يبدو أن اشتباك القرآن: نصًا و خطابًا مع خصوم رسالته ممن يقفون على ذات الأرضية “الكتابية” بدأ من اليوم الأول.
إذ لم تكن مكة منعزلة عن العالم المحيط بها عربيًا أو عجميًا، الأول بحكم مركزها الديني، و الثاني بحكم مكانتها التجارية.
لكن خروج العرب بجيوشهم ولغتهم و “كتابهم” إلى حضارات أخرى كان مرحلة حاسمة في تشكيل حضارتهم هم أنفسهم.
ثمة عوامل عديدة ودوافع كثيرة وراء نشأة (علوم) الإسلام، لكن يأتي على رأسها ذلك الاشتباك الممتد من اللحظة الأولى لنزول الوحي إلى ما تلاها من لحظات فارقة في تاريخ المسلمين.
ومن تلك (العلوم) الناشئة جاءت “علوم القرآن”، لكنها ولدت عبر تلاقح علوم أخرى أسبق منها نشأة واكتمالًا، كالنحو والبلاغة واللغة والتفسير وأصول الفقه..إلخ
و من المعروف في تاريخ العلوم عامة أن بذرتها الأولى هي وجود الإشكال الداعي إلى التفكير، ثم بزوغ الأفكار والمفاهيم في الأذهان قلقة مضطربة، باحثة عن ألفاظ تتجسد من خلالها، ثم ترتبط تلك المفاهيم بعدد كبير من الألفاظ، حتى يتم الاصطلاح على “مصطلح بعينه” فيجُّب ما قبله، ليسود بين المتخصصين في هذا العلم، وباجتماع المفاهيم وتوحيد الموضوع وتشكيل المنهج يصل العلم إلى نضجه واستوائه.
هذه الرحلة يبدو أنها كانت متعسرة فيما يخص ما سُمي بـ “علوم القرآن”، إذ تعددت أسماء المجال المعرفي: علوم القرآن- علوم التفسير- أصول التفسير- قواعد التفسير- ..إلخ، وفيما يخص المفاهيم والأدوات ذاتها، فقد استلهم الدارسون مفاهيمهم وأدواتهم من علوم أسبق وبخاصة “أصول الفقه”، ولأنه لم يبق لعلوم القرآن إلا تحديد الموضوع، فقد كانت المفارقة هي أن “القرآن” كان موضوعًا لعدد كبير جدًا من (العلوم).
وبوسع الدارس أن يضع يده على أيٍ من مفاهيم ومصطلحات “علوم القرآن” ليكتشف أن جذوره تُشكل أغصانًا لعلوم أُخر، وأنه من الصعوبة بمكان اكتشاف الخصائص المائزة لمنهج تناوله في علوم القرآن عن غيرها.
ومن هذه المفاهيم والمصطلحات شديدة الأهمية في أصول الفقه وأصول الدين وأصول التفسير على السواء، مصطلحا “المحكم والمتشابه”

المرجع في تفسير القرآن:

لم يكن الاستشهاد بأشعار العرب ثمرة تأكيد القرآن على عربيته فحسب، وإنما لأن التفسير وغيره من علوم المسلمين قد ظهرت في بيئة تعتز و تتأسس على العروبة عرقًا والعربية لغة.
لقد كانت تلك العلوم في أحد تجلياتها جسرًا لعبور”الموالي” من غير العرب إلى مساحات الشرف والثراء، وإن ظلت هناك حدود لم يكن من السهل تجاوزها، في ظل ثقافة تعتز أيما اعتزاز بأنسابها و عرقها.
و من هنا كان التغلب على عجمة العرق بتعريب اللسان، و الشواهد على ذلك كثيرة.
و هنا كانت المفارقة الأظهر: إذ إن انتقال العرب/ المسلمين إلى ساحات الحواضر الأعجمية في الشرق والغرب، صاحبه جمع وتقعيد لعربية “البدو” شارك فيه نفر من العجم أنفسهم: عجم العرق لا اللسان بالطبع، و من الملفت أن تكون أهم مدرستين لأهم علوم العربية “النحو” هما مدرستا البصرة والكوفة بالعراق، أي خارج البادية التي منها جُمعت اللغة.
وهنا اجتمعت “البداوة” المادة الخام للغة ولهجاتها، بـ “الحضارة”، العمود المؤسس لعلوم المسلمين بأدواتها ومفاهيمها ومناهجها.
فتحولت اللغة من كائن أحادي البعد إلى كائن ثنائي وثلاثي الأبعاد.
ففي البيئة التي نزل فيها القرآن على مدار 22 عامًا وأكثر كانت العربية تدور في بعدي الحقيقة والمجاز، على وفق ما ألف العرب، لكن ما حدث بعد ذلك، ونتيجة احتكاك العرب بغيرهم من الأمم و الشعوب، صار للحقيقة اللغوية أكثر من بعد، زد على هذا أن تحول القرآن من مجموعة خطابات شفهية إلى نص واحد بين دفتين، كان قد زاد الأمر تعقيدًا، فتعددت المداخل إلى هذا الخطاب/ النص من اللغة إلى التاريخ إلى الفقه … و هلم جرا.
و جاءت علوم القرآن أو التفسير لتجمع كل ذلك في علم واحد لم تتهيأ العوامل التي تجعله يصل – أزعم أنه إلى لحظتنا هذه- إلى منظومة واحدة مترابطة و متميزة منهجيًا ومفاهيميًا.

و دراسة مفهومي المحكم والمتشابه تعطينا الأدلة على ما سبق أن قررت، فبمجرد أن تطلع على ما قيل في شأنها في مصادر علوم القرآن والتفسير تجد ما يلي:
المدخل اللغوي لبيان المحكم والمتشابه، من خلال الرجوع إلى لغة العرب، حيث يدل جذر الكلمة الأولى على “المنع” ولازمه “الإتقان” والمأخوذ – كعادة المفاهيم الذهنية والمعنوية – من أصله المادي: حَكَمة الفرس. بينما يدل جذر الكلمة الثانية على “التماثل” ولازمه الالتباس، والمأخوذ من الشبه وهو النحاس الذي يُماثل الذهب في لونه، أو شجر الصمغ الذي يشبه السمُر. ومن هنا انصب الحديث في هذا الجانب على “الوضوح” و “الغموض” في النص القرآني، وبذا أيضًا دخلت الحروف المقطعة في أوائل السور في مساحة المتشابه.

المدخل التاريخي: حيث يتم استحضار أسباب نزول الآيات الأولى من سورة آل عمران، بشأن جدال النبي مع وفد نجران النصراني، و القول بأنهم حاولوا استغلال “تشابه” ما لديهم من نصوص كتابية، بما وقع في القرآن، لدعم عقيدتهم، ومن هنا وُلد الجدل اللاهوتي لأول مرة بين الإسلام وقرآنه والنصرانية وأناجيلها. ومن هنا انصب الحديث على صفات الخالق ومعنى الروح والكلمة..إلخ

المدخل الفقهي: إذ تم توظيف المفهومين القرآنيين في سياق العمل الدءوب لفقهاء المسلمين على ضبط سلوك الداخلين في الإسلام من غير العرب، أسوة بما تم من ضبط ألسنتهم عبر علوم النحو والبلاغة، فأصبح المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ، و هنا يتداخل الفقهي بالتاريخي.
لقد جرت دراسات كثيرة في العصر الحديث لمحاولة الخروج من هذه الدوامات المفاهيمية، لكنها كانت تدور في معظمها في إطار التعامل مع القرآن كأنه توراة أخرى نزلت دفعة واحدة، على خلاف ما يعرفه الكثيرون، ثم تطورت الدراسات لتصل إلى مرحلة التعامل مع “القرآن” باعتباره يختلف عن “الوحي” من جهة، وعن “المصحف” من جهة أخرى. ، فظهرت ألوان من الخطابات هي استعادة وتطوير للقديم من خلال التناول اللغوي، والتاريخي، والفقهي.
فهل نجحت تلك المحاولات في الوصول إلى طموحها الكبير، بتأسيس نظرية عربية في تأويل القرآن بخاصة، أو تأويل النصوص بعامة؟ هناك –في زعمنا- محاولات لم تنضج بعدُ، شأن نظرية التأويل العربية القديمة، التي ظلت -إلى حدٍ ما- ترواح مكانها، بعد جهود أصحاب نظرية النظم في القرآن.
نحنُ إذن بإزاء ثلاثة مداخل على الأقل، بشأن الوصول إلى حل لمعضلة تباين وتفاوت الأقوال في تحديد مفهومي المحكم والمتشابه من جهة، والوصول إلى نظرية عربية في التأويل من جهة أخرى..هذا إذا اعتبرنا أن تعدد الأقوال والنظريات معضلة في حد ذاته، و أنا لستُ من أنصار تلك الرؤية.
لكن على أية حال:
هناك أولًا النظرة اللسانية التي تكتفي بتناول ظواهر النص، متسلحة بما وصل إليه العلم الحديث في مجال الدراسات اللسانية. وتجاهل ما حف بالنص من روايات تاريخية، وأحيانًا تفسيرية، و خاصة تلك الروايات التي تتناول الأطوار الأولى لتشكل النص.
و هناك ثانيًا النظرة التاريخية التي تحاول إعادة بناء السياق الأول لنزول القرآن لاستعادته في بنيته الأصلية كمجموعة من الخطابات، أدى تحولها إلى نص مغلق إلى انسداد المعنى من جهة و تشظيه من جهة أخرى.
و هناك ثالثًا النظرة الفقهية المقاصدية التي تتشابك/ تتقاطع مع التاريخية في سعيها إلى الوصول عبر ما أسمته “لسان النص” وفق مفهومها الخاص للسان، لا وفق المعروف في علوم اللسان، لتصل إلى تشكيل منظومة فقهية صالحة للحلول محل المنظومات التراثية التي لم تعد صالحة لهذا العصر.

في النهاية، تظل محاولتنا المتواضعة تلك خطوة قصيرة في سبيل استكشاف ما تم من جهود في السابق، و اكتشاف ما عساه أن يحمله لنا الحاضر والمستقبل من وعود بشأن سعينا إلى الوصول إلى منهج جديد لتناول القرآن نصًا أو خطابًا، وفق المعرفة العلمية المنضبطة والمنهجية، و التي يجب أن تسبق أية أهداف أخرى.
و قد حرصنا على أن يخلو هذا النص من ذكر الأعلام أو النصوص المقتبسة أو التواريخ؛ لأننا نعتبره مجرد خواطر، ربما نسعى في قابل الأيام إلى طرحها في شكل علمي أكثر منهجية.





فتنة خلق القرآن بقلم هالة عصمت

12 06 2022

العدد الأول من مجلة تفكير 12

من الصعب أن ابدأ الكتابة عن فتنة خلق القرآن دون التطرق الى من كان ورائها الا و هم المعتزلة أحد أشهر الفرق الكلامية أثناء

#مجلة_تفكير1 الحكم العباسي، كما يصعب الكلام عن المعتزلة دون التطرق الى اسباب ظهور الفرق الكلامية بصفة عامة.
ظهرت الفرق الكلامية بالتزامن مع انتشار الاسلام و تجاوز رقعته الجزيرة العربية إلى أماكن أخرى كبلاد فارس والهند والشرق بصفة عامة حيث تنتشر حضارات تقوم على الفلسفة و الماورائيات، و في حين كان العرب يقيمون شأنا كبيرا للغة و الشعر و المعجزة اللغوية القرآنية، فإن هذا العنصر كان يتضاءل في بلاد لا تتكلم العربية و لا تفتن بها، و كما هو معتاد حاولت الحضارات الأخرى إضفاء بعضا من بصماتها على الدين الجديد خاصة مع زيادة حركة الترجمة والتعريب فنشأت الفرق الكلامية التي ظهرت في نهايات عهد علي بن ابي طالب و بداية الدولة الأموية و ان كانت بوادرها قد ظهرت من قبله دون أن تتخذ شكلا رسميا و التي كانت تهدف إلى اتصال الدين بالفلسفة و إيجاد أجوبة فلسفية منطقية للكثير من القضايا و المسائل والتحديات الايمانية وعلم الكلام والذي قال عنه ابن خلدون “هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية” وقيل عنه أيضا “علم يقتدر معه على إثبات الحقائق الدينية بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها” و كان أحد ابرز الفرق الكلامية المعتزلة و قيل انهم لقبوا بهذا الاسم بسبب اعتزال مؤسسها واصل بن عطاء مجلس أستاذه الحسن البصري بسبب الخلاف حول بعض الأحكام الفقهية.
عرف عن المعتزلة تغليبهم العقل على النقل ومن أقوال المعتزلة نفى الصفات ومعنى هذا أن الصفة مجرد قول نطلقه للدلالة على الموصوف، وليس معنى ثابت حقيقى، وكذلك عدم رؤية الله بالأبصار في الآخرة، و ان حكم الفاسق في الدنيا ليس بمؤمن ولا بكافر، و قضية خلق القرآن, لم يكن هناك خلاف بين المعتزلة وخصومهم من الفرق الإسلامية على أن الله تعالى متكلم وأن له كلاماً وأن القرآن كلامه، لكن الخلاف حول معنى الكلام وحقيقة المتكلم وهل القرآن مخلوق حادث أم غير مخلوق. كان ظهور فرقة المعتزلة تأسيسا لما أصبح يسمى بعلم الكلام الذي اختص بدراسة قضايا العقيدة، أما في الواقع فقد مثل المعتزلة بداية التفاعل مع التصور السائد الديني والمعرفي والفكري في البلاد المفتوحة وبداية تعديل تفسير النص المقدس وفق أسس عقلية تحديدا.
لقد كانت مدرستا النقل في الحجاز والعقل في العراق في مقاربة القضايا الفقهية قد تمايزتا لتحددا المقاربتين الأبرز للنص المقدس. وهكذا إلى جانب القضايا السياسية الساخنة المتعلقة بقضية الإمامة وتبرير ظهور الحاكم المطلق برزت قضية هامش ودور العقل في مقاربة النص المقدس وتفسيره.
أراد المعتزلة أن يفسروا النص المقدس بما يحقق انسجامه مع مقتضيات العقل فيما اعتمدت مدرسة أهل الحديث على مبدأ تقديم النقل على العقل. ومن هذه المقدمة وصل المعتزلة إلى نفي صفات الذات الإلهية فأبطلوا أن تشاركه في القدم ومن هذا النفي كان اعتبارهم القرآن مخلوقاً أي محدثاً. ومن هنا بدأت المحنة التي استمرت قرابة 15 عاما بداية من 218 هجرية و حتى 233 هجرية بعد وصول الخليفة المتوكل للحكم .

محنة خلق القرآن
بدأت وقائعها أثناء حكم الخليفة المأمون أحد خلفاء الدولة العباسية ( استخلف في 198 _ 218 هجرية) حين قام الجهم بن صفوان (78- 128هجرية) مؤسس الطائفة الجهمية الأولى التي ظهرت في أواخر عصر التابعين بعد موت عمر بن عبد العزيز سنة 101 هجرية بإطلاق فكرة أن القرآن هو كلام الله المخلوق وأن له بدء وانتهاء كسائر المخلوقات مخالفا بذلك ما كان سائدا بين علماء المسلمين من أن كلام الله يستمد صفاته من الله لذا فهو أزلي أبدي لا بدء له ولا انتهاء، وأصل هذهِ المسألة شبهة قديمة أراد أن يثيرها يوحنا الدمشقي الذي قال (إذا كان القرآن غير مخلوق فهو أزلى وبالمثل فإن النبي عيسى أزلي لأنهُ كلمة الله وإن كان مخلوق فهو منفصل عن قدسية الله مثل باقى المخلوقات) واستطاع المعتزلة الحصول على موافقة المأمون الذي تبنى الفكرة وارغم رجال الدين آنذاك على تقبلها باستثناء بعض العلماء وكان على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل الذي رفض الانصياع للفكرة فما كان من الخليفة المأمون الا أن بعث يستقدمه هو وزميل له هو محمد بن نوح والذي توفي في الطريق قبل الوصول إلى مقر الخليفة.
حاول المأمون أثناء بن حنبل عن موقفه بالتهديد و السجن و لكن بن حنبل ظل رافضا مقاوما ومدافعا بكل ما أوتي من علم ويقين وبعد وفاة المأمون سنة 218 هجرية واصل خليفته المعتصم المحاولة بشكل أشد قسوة وشراسة واستخدام التعذيب والجلد بالسياط حتى وقع الإمام مغشيا عليه و كاد أن يهلك ولكنه برغم ذلك لم يتزحزح عن موقفه وحاول البعض إقناعه باستخدام مذهب التقية كي يحفظ حياته ولكنه رفض لاعتقاده أن التقية لا تستخدم إلا في بلاد يكون الإسلام فيها غريبا أما في ديار الإسلام فلا يجب إلا الجهر بالحق كما أنه لا يجوز للإمام أن يستخدمها والا شاع قول الباطل بين العامة.
بدأ فصل جديد في محنة الإمام بوفاة المعتصم و تولي الخليفة الواثق عام 227 هجرية ولم يتعرض الخليفة الجديد للامام بشر حيث أنه تيقن من ثبات موقفه ولكنه حاول مع باقي العلماء والفقهاء وكتب إلى محمد بن أبي الليث قاضي مصر يطلب منه امتحانهم وعندها فر من استطاع الفرار وامتلأت السجون بمن لم يستطيعوا ومنع أصحاب مالك والشافعي من الجلوس بالمساجد اما الامام بن حنبل فتم تحديد إقامته في بيته حتى مات الواثق و تولي من بعده الخليفة المتوكل عام 232 هجرية الذي خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد وطعن في مسألة خلق القرآن ونهى عن الجدال حول الأمر فانتهت الفتنة وانكشفت الغمة.
و قد تباينت آراء الفرق الإسلامية و ردود أفعالها في مسألة خلق القرآن. فبينما اعتقد أهل السنة والجماعة أن القرآن غير مخلوق وكفر اغلبهم القائل بخلق القرآن بل إن منهم من قال بأن الساكت عن الموضوع او من سمع بهذا و لم يكفر قائله فهو كافر فإن الشيعة قد منعوا الخوض في تلك المسألة و لم يشاركوا برأي فيها، أما الأباضية فبرغم اختلاف علماءهم في المغرب وعمان لم يقم أحدهما بتكفير الآخر حيث تبنى علماء الاباضية في المغرب الرأي القائل بخلق القرآن واختلف علماء عمان فيما بينهم مع ترجيح فكرة رفض خلقه ولكنهم في نهاية الأمر عندما أحسوا بداية اختلاف وانشقاق قرروا الاكتفاء بما كان عليه السلف و الكف عن الكلام في مسألة خلق القرآن أو عدمها.

تعتير المحنة حدثا محيرا في التاريخ الإسلامي وخاصة فيما يتعلق بوقت ظهورها في عهد الخليفة المأمون والذي اشتهر بسعة أفقه وتشجيعه للبحث العلمي, وادعى بعض الباحثين أن السبب هو قوة الصلة بين المأمون والمعتزلة ولكن الكثير من الحقائق تدحض مثل هذا السبب، على سبيل المثال فإن القول بخلق القرآن لم يكن خالصا للمعتزلة بل سبقهم اليه الشيعة و الجهمية، كما ان محكمة المأمون شملت بعضا من علماء المعتزلة مثلما شملت بعضا من علماء السنة. ويعتقد بعض المؤرخين ان السبب الأرجح هو أن المحنة كانت في الغالب محاولة من المأمون لإثبات سيطرته على السلطة الدينية والقانونية على المدى الفقهي والثقافي، وخاصة التحدي لدى الأطراف التقليدية واستمرت تلك النزعة في السيطرة لأسباب سياسية صرفة في عهد المعتصم والواثق حتى تولى الخليفة المتوكل وقرر تغليب صالح الأمة الإسلامية وقام بغلق باب الفتنة وإنهاءها تماما.

#مجلة_تفكير1

العدد الأول من مجلة تفكير





استقراء القرآن ما بين محلية النص وعالمية الرسالة

11 06 2022

بقلم: دعاء عباس

العدد الأول من مجلة تفكير 11

مقدمة
عبر مطالعة الفصول الأربعة الأولى من كتاب “مقدمة عن توتر القرآن” لمؤلفه جمال عمر، وحضور المناقشات التي دارت بين المشاركين في الدورة حول موضوع الكتاب والمشاركة من حين لآخر فيها، شعرت بعنوان هذه الورقة يخطر على بالي مُحمّلا بمجموعات من الأفكار المتداخلة سواء فيما يخص عنوان هذه الورقة أو في الفكرة الأساسية التي بنى المؤلف كتابه عليها. وهذه الورقة ليست سوى تعبير أولي عما قرأته وتفاعلت معه، وهو قابل للإضافة أو الحذف بحسب ما يستجد على فهمي من معاني، خاصة وأنني اعتمدت فيما كتبته على المحتوى الذي قدمه المؤلف في كتابه دون استقصاء ما أورده.

والسؤال الرئيسي الذي وجدته يطرح نفسه:

هل استقراء القرآن مشروط بمحلية (خصوصية) النص أم بعالمية (عمومية) رسالة الإسلام؟ لدى طرحي هذا السؤال، تولد سؤال جديد ذو صلة يقول: هل القرآن تابع للدين الإسلامي ورسالته العالمية أم أن له شخصية مستقلة ذات كيان قائم بذاته؟ أيهما تشكل عن الآخر؟

حسنا، ما فائدة هذا السؤال؟

إذا كان القرآن ذو هوية مستقلة عن الإسلام كدين، أفلا ينسحب ذلك على أن استنباط أحكام الشريعة وأصول الفقه من النص القرآني يجب ألا يُحمَّل بأكثر من حدوده المحلية؟ أم أن القرآن هو كلام الله التابع لدينه، وبالتالي فإن استقراء النص القرآني يجب أن يتوازى مع عالمية الرسالة الإسلامية؟ بصياغة أخرى، هلى نحن خلطنا ما بين محلية النص القرآني وعالمية الرسالة؟

أليس بنزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ظهرت الرسالة وتَشَكَّل الإسلام كدين؟ إذن، لا مجال للقول بأن النص القرآني بمعزل عن عالمية الرسالة. فإذا انطلقت من هذه النقطة، أعتقد أنه يمكنني القول إن القرآن أو النص القرآني لم يَستَغلِق على مستقرئيه لِعِلَّةٍ فيه، وإنما نشأت العلة عن الهالة التي أحاط بها من تصدوا لتفسير النص القرآني بوازع احتكاري، كما لو كان موجها للعرب فقط.

وفي كتابنا “مقدمة عن توتر القرآن ” استعرض المؤلف جمال عمر جهود القدماء والمحدثين في تفسير القرآن منطلقا من فرضية بنى عليها كتابه، وهي أن خطوة جمع القرآن الكريم في مصحف قد أدت إلى تقييد التعامل مع القرآن من “وحي شفاهي” كانت له مستتبعاته التي كان من المفترض أن تأخذ المسلمين إلى منطقة أخرى غير التي يحيوها الآن، إلى “نص مكتوب”; مُلاحق بسلسلة لا منتهية من التبعات التي اختلط فيها كل شيء; المقصود الإلهي بالتصورات البشرية، والمنطقي بالخيالي، والظاهر بالباطن وخلاف ذلك أيضا.

ومضي عمر في فرضيته وصولا إلى أن تلك “التبعات” قد دخلت تلقائيا في حيز “الشبهات” نتيجة لعملية النقل هذه من الشفاهي إلى المكتوب بأيدِ بشرية، مما فرض على علماء ومفكري المسلمين التعامل مع القرآن كنص والوقوع في دوامات محاولة تبرير ولملمة كل النواقص التي حلت “بمدلولات الخطاب الشفاهي” من بعد تحوله “لخطاب مكتوب” منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا.

وإن كنت أتفق مع المؤلف فيما ذهب إليه من تساؤلات ومقارنات حول الوضع ما قبل “عملية جمع القرآن” والوضع بعدها، إلا أنني أختلف معه في الكيفية التي عالج بها فكرته، وأجد أن طرحه كان أسير فرضيته بشكل لم يمكن تجنبه أثناء قراءة الفصول الأربعة التي قرأتها بعناية.

وأعرض لنقطتين باختصار مما آخذ على طرح المؤلف (بما يتناسب مع الفصول التي قرأتها).
النقطة الأولى أنه حين بنى فكرة الكتاب وهي “رفع التوتر عن القرآن”، فقد جاءت طريقة عرض الفرضية وهي “تَشَكُّل أزمة في التعامل مع القرآن نتيجة جمعه في مصحف” ذات طبيعة سردية نمطية تكرر ذكرها إنشائيا في أكثر من موضع. كما أنها خلت من ذكر اقتباس واحد، يُستدَلُّ منه على معاناة أي ممن شمل محاولاتهم التفسيرية بالذكر في الفصول الأولى، مما اعتبره نتيجة حتمية يدفع علماء المسلمين ثمنها منذ القدم وحتى الآن. بل وأنه حمّل هذه النتيجة عجز جهود التفسير عن الخروج من ضيق نظرة “النص” إلى رحابة “الخطاب الشفاهي”. ولم أجد بين الفقرات والجمل التي قرأتها أي اقتباس لأي عالم أو باحث من المسلمين يتناول ما يدلل على فرضية المؤلف. إن ما أختلف حوله هنا ليس طبيعة الفرضية بحد ذاتها، بقدر ما أنه تم طرحها بشكل أظهرها أقرب إلى المسلمة منها إلى الفرضية.

النقطة الثانية أنني وجدت أن توصية المؤلف بترجمة الموسوعة الإسلامية التي أخرجتها دار نشر “بريل” بجامعة “لايدن” بهولندا – والتي ذكرها ضمن الجهود الغربية التي تناولت الدراسات القرآنية بالبحث – وقوله بحاجة الثقافة العربية لترجمة هذه الموسوعة، أتت مناقضة لدعوته الأكيدة للانطلاق في التعامل مع القرآن والسنة من وعينا الآني وأسئلة واقعنا الحاضر، وضرورة وقف الاستلهام بعين ولسان التراث. وهنا، فلست أرفض إنتاج الآخر ولا بالطبع الاطلاع عليه والاستفادة منه ولكن وجدت أن توصية المؤلف لم تكن في محلها في الوقت الذي ذكر فيه هو نفسه في الكتاب أن الدراسات القرآنية العربية تفتقد الموضوعية وينبع كثير منها عن مذهبية، وأنها تحتاج لاعتماد أدوات البحث العلمي بعيدا عن العنصرية الفكرية. لذلك، رأيت أنه كان من الأجدر الدعوة إلى وضع انتاج دراسات وبحوث عربية جادة تتناول القرآن الكريم بعين احتياجات وأسئلة وتحديات عصرنا لا بعيون ومنهجية وأهداف الباحثين الغربيين موضع الأولوية القصوى، هذا إذا كنا حقا نريد التحرك من المنطقة التي التصقنا بها منذ القدم ونسلط عليها الضوء الآن لبيان سبل الفكاك منها.

وأظن أن تقديم الأولوية لإنجاز دراسات عربية رصينة لا تقل أهمية وثقلا عن الموسوعة الإسلامية لجامعة لايدن، من شأنه فتح السبل أمام الباحثين المسلمين لإنتاج بحوث مشتركة مع الباحثين الغربيين، يكون للجانب العربي فيها المكانة التي تمكنه من الاشتباك بموضوعية ومنهجية أكاديمية مع الطرح الغربي والاستفادة من هذا التواصل العلمي البناء في بناء خبرات وتراكمات بحثية حقيقية تساهم في نقل جهود التفسير من مربع النمطية لمربع العصر بمتطلباته.

وفيما يخص أدوات رفع التوتر عن القرآن التي تناولها المؤلف وعرض نماذج لها، فأظن أنها تدعم فكرة مسؤولية الفرد المسلم عن تدبر كتاب القرآن الكريم من خلال موقع الفرد ما بين ثنائية تلك الأدوات. فما بين المتشابه والمحكم، والخاص والعام، الناسخ والمنسوخ، يجد المسلم نفسه في وضع يحتاج معه لإعمال عقله وتدارس تلك الأدوات وارتباطها بأسباب النزول، حتى يتمكن من الاطمئنان إلى معاني بعينها وتغليب ظن على آخر.

وبالتالي، فإنه يمكن القول إن أدوات رفع التوتر عن القرآن على الرغم من التحديات التي تمثلها بذاتها، إلا أني أظن أنها تنتصر لفكرة أن القرآن لا يحيا إلا بالإنسان وبتفاعله مع هذا الكتاب. فعندما يمارس الفرد المسلم فعل التدبر في القرآن وبشكل مستمر كأسلوب حياة، فإنه يُفعّل قول الله عز وجل: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” الحجر (9). وأظن أن سر الحفظ هنا مرهون بمداومة إقبال الإنسان على التواصل مع خالقه عبر كتابه، بما يجعل لهذا الإنسان حظوة من بركة الخالق ويستحق أن تتنزل أنواره تعالى على قلبه، فينفتح هذا القلب ويميل بفطرته إلى فهم الآيات بفهم معين قد يتجاوز كل المتعارف عليه في الفهم والتفسير.

ولعل ذلك من أهم فوائد تدبر القرآن الكريم وهي إحياء ميزان قلب الإنسان المسلم وجعله قادرا على الثقة في هاتفه الداخلي (حدسه أو فطرته) وتدريبه باستمرار على التفكر واستخدام عقله بما يتواءم مع قلبه ووجدانه في وحدة واحدة لا تقسمه إلى أجزاء، بل تتعامل معه على أنه كيان واحد. ولا عجب أن ذلك واحدا من العناصر التي أُخِذَ غيابها في مدارس تفسير القرآن على أنه تعامل مع القرآن بشكل تجزيئي تفتيتي لا بنظرة كلية شمولية موحدة. وهو نفس الرأي الذي أورده المؤلف في نقده لمنهج بعض المدارس في التفسير.

إذن، فما أريد قوله هنا أن أغلب ظني أن استقراء القرآن يتأتى عبر الوحدة بينه وبين المخاطب به وهو الإنسان الفرد المسلم أينما كان وأيا كانت لغته الأم. ومن هنا، فلست أتفق مع اعتبار المؤلف أن “اللغة أو البلاغة” هي المدخل الأساسي لفهم القرآن. بل أرى أن كل المداخل تلعب دورها شرط أن يكون الإنسان هو مركز هذا الدور، بمعنى عدم تحييد الإنسان وتفاعله مع النص وعدم فرض الوصاية عليه من خلال قواعد وأطر محددة يفهم بها النص وبتمييز لأفراد دون آخرين، كأن يكون فهم النص حكرا على البعض دون الآخر. وإنما، أن يُعتبر أن استقراء القرآن لا يتحقق إلا في وجود الإنسان المتدبر لجوهر هذا الكتاب بإعمال العقل وباستفتاء القلب وباطمئنان الوجدان. وعليه، فإن تضافر هذه العناصر الثلاثة، يمكن أن يكون نقطة بداية لأسلوب أو منهج يصلح للبناء عليه للحصول على استقراء جاد وفعال، يضمن ليس فقط التزام الفرد بتفعيل القرآن في سلوكه وحياته الشخصية، وإنما يعمل بقوة على إذكاء حركة الاستقراء للقرآن، بما يتطلبه ذلك من تطوير أساليب فهم النص واستنباط المعاني والأحكام بما يناسب احتياجات الفرد المسلم المعاصر.

الخلاصة
أعتقد أن واحدة من الإشكالات الرئيسية التي يكشف عنها موضوع التوتر في القرآن، هي أنه يتم حصر فهم القرآن باللغة المكتوبة. ويتناسى هذا الاتجاه دور الوجدان والقلب في هذه العملية باعتبار أن القرآن هو خطاب شفاهي في المقام الأول يخاطب الإنسان عبر أذن الروح. وفي هذا الصدد، وجدت أن المنحى الذي اتخذته المستشرقة الألمانية أنجيليكا نويفيرت وعرض له المؤلف ضمن جهود المستشرقين الغربيين، منحى مثيرا لافتا للانتباه ويستحق الاهتمام والدراسة والمتابعة. ذلك أنها قدمت دراسة تطبيقية على السور المكية، قامت فيها بدراسة السجع والنغم الموسيقي الخاتم للآيات والسور التي يصل عددها إلى 80 نوعا، بحسب ما ذكر المؤلف في ذلك الجزء من كتابه.

وأجد أن من أكثر الجمل الملهمة التي وردت في هذا الجزء من الكتاب، قول المؤلف “إن القرآن يتم النظر إلى آياته في العادة ككلام مكتوب، وأن إهمال الأداء المنطوق لهذه الآيات، يغفل فارقا هاما بين القرآن وبين الكتاب”. وعليه، فإنني أعتقد بأهمية متابعة الدراسة والبحث في هذا الموضوع من منطلق تأمل أن عدل الله حين أنزل القرآن اقتضى توحيد لغة الخطاب، وهذه اللغة بظني، لم يكن المقصود بها اللغة العربية ولا البلاغة ولكن كان المقصود هو ما يحدث للروح عند استقبال سماع القرآن، والذي بدوره يبث السلام والسكينة في نفس الإنسان ويجعله مهيئا لتلقي المعاني بقلب مطمئن. لذلك اعتمد نزول الوحي في بدايته على الخطاب الشفاهي لتحفيز وتنمية خصوصية التواصل الخاص أو “الصلة الخاصة” ما بين الخالق والمخلوق والتي أودعها الله في الإنسان في قوله تعالى “ونفخت فيه من روحي” الحجر (29). فحين تستيقظ هذه الروح، يعرف الإنسان جيدا وجهته ولا يضل الطريق. ولعل ذلك تأكيد إضافي لكيف كان الاستماع لآيات القرآن يحدث أثره بالنفس أيا كانت جنسية المستمع أو لغته. ومن هنا كان أول ما نزل من الوحي “اقرأ”، وكأنها دعوة إقرار بكل ما هو آت. ليس إقرارا عن علم ومعرفة، بل إقرار عن يقين قلبي وإيمان غيبي. وأظن أن هذا هو ما يلزم الفرد المسلم التسلح به عند مواجهة النص القرآني، الاجتهاد مع اليقين بأن الخالق الذي خاطبه بهذا القرآن كفيل بالتواصل معه وليس التخصص والتعمق في التفاصيل ودراسة الشعر الجاهلي واللغة والأساليب البلاغية وكأن ذلك هو الحل الأوحد للفهم.

أجد أن “مقدمة عن توتر القرآن” يدفع باتجاه الكشف عن جوهر الرسالة المحمدية وهي أن يتعلم الإنسان المسلم كيف يتواصل مع ربه من خلال القرآن ويثق بأنه يوحى إليه من الله من خلال هذا الكتاب حتى يعيش دونما استعباد من أي طرف ويعرف كيف يعيش حياة حقيقية مثمرة.





الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن جزء 3

9 06 2022

‫الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن المجلد الثالث: من سورة 10/ يونس – 15/ الحجر جمع ودراسة جمال عمر‬ 

تقدمة
-1-

منذ سنة ثلاثة وتسعين من القرن الماضي وأنا أبحث عن قصة محمد أبي زيد الدمنهوري، ليس عن قصة التفريق بينه وبين زوجته سنة 1918، ثم رد المحكمة الشرعية العليا الحكم. بل اهتمامي كان بأن محمد أبوزيد كان قد أصدر تفسيرا عام 1930 بعنوان “الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن”، وقد تم مهاجمة التفسير من قِبل مشايخ ودعاة، وتمت مصادرة الكتاب. ليختفي من المشهد العام. وليتجدد عندي البحث كل فترة عن هذا التفسير، وكان قد أعاد الأستاذ محمد حربي نشر حوار من أرشيف جريدة الأهرام قد أجرته الجريدة مع مؤلف التفسير عام 1931، وقدم له تقدمة.
لكن مع فورة ثورة التواصل والتشارك عبر قارة النت خلال العقدين الماضيين، فقد ظهرت نسخ من هذا التفسير كانت موجودة بالهند، وتم توفيره كملف مصور علي النت.
فأنزلت الملفات وجلست اتدارسها، فوجدت أن أبا زيد الدمنهوري قد أتى بنسخة مصحف كاملة كما هيه وعلى هامشها يكتب تفسيره، الذي هو عبارة عن مقدمة قدم بها، ويكتب في التفسير على الهامش عود إلى الآيات كذا وكذا من سورة كذا، وأحيانا يضيف عبارة “لتجد أن”، ويعطي معنى كلمة أحيانا، أو معنى في سطر واحد.
ومن الصعب أن تصل إلى معنى لكلامه، حقيقي، بدون أن تأتي بالآيات التي أشار إليها وتضعها بجانب بعضها، وتربطها بالآية التي يحاول أن يشير إلى معانيها. بعبارة أخرى، طريقة بناء الكتاب لا تكشف عن معاني كثيرة لهذا التفسير.
ففي حبسة وباء كرونا أنفقت الحبسة في محاولة جمع هذه الآيات التي يشير إليها التفسير عند تفسير كل آية، عملية كانت صعبة لأنه أحيانا يشير إلي سور طوال بكاملها دون أن يحدد آيات معينة فيها، أو أحيانا يشير إلى بداية سورة كذا أو نهايات سورة كذا دون أن يحدد آيات أيضا. لكن حاولت أن أضع نص الآية التي يتم تفسيرها، وكلام محمد أبو زيد فيها، مما جعلني أعيد كتابة كل ما كتب، ثم اضع في هامش تحتها كل الآيات الأخرى التي أشار إليها في تفسيره، بحيث يستطيع القارئ أن يرى العلاقات التي يُقيمها التفسير بين جوانب القرآن.
فوصل التفسير إلى عشر مجلدات. هي عبارة عن إعادة كتابة آيات المصحف مرات مختلفة. وقد وضعتها بهذه الطريقة، لكي أفرًّق بين جهد محمد أبوزيد وبين إضافتي لما كتب، احتراما للنص ولمؤلفة، وحين عرضت الأمر على أصدقاء، فكان الاقتراح أن أنقل الآيات من الهامش لمتن الكتاب، وأن أذكر ذلك في المقدمة فسوف يفرق القراء بين ما كتب أبوزيد وبين ما أضفته أنا، وأن هذه الطريقة سوف تُسهل على القراء التواصل مع المعنى. وقد حبذت هذه الفكرة، وآثرت أن أجعل ما كتب أبوزيد بخط سميك، وما أضفته يكون بخط أرفع منه، وبهذا يُدرك القاريء.
الطريقة الأخرى آثرت أن أضع نصوص آيات المصحف بدون حركات الإعجام وحركات الإعراب، فهذا ليس نص مصحف، يتم الاعتماد عليه في التجويد، بل مجرد إشارة إلى الآيات من أجل الدرس، ورقم السورة واسمها ورقم الآيات مذكورة فيستطيع من يريد أن يعود للنص أن يعود له في نسخة مصحف. وأعدت كل العمل مرة أخرى من جديد. وفي حالة استشهاد المُفسر بسورة طويلة، دون تحديد آيات معينة، فأشير إلى السورة في الهامش، حتى لا يطول الأمر كثيرا جدا.
وآثرت أن أضيف لمجلدات تفسير محمد أبوزيد كتاب يكون بعنوان “كبت الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن”، يكون بمثابة دراسة نقدية للتفسير وجوانبه، ووضعه في سياق عملية التحدي الحضاري التي دخلت فيها شعوب المسلمين، تحت تأثير المواجهة مع الحداثة الغربية خلال القرون الثلاثة الماضية، ولماذا الاتجاه لتفسير القرآن بالقرآن؟ ليس فقط داخل مجال تفسير القرآن عند المسلمين، بل في التعامل مع تراث المسلمين الديني والمعرفي ككل. بل وربط كل هذا بتجربة محمد أبوزيد الدمنهوري الشخصية وحياته، سواء في قضيته الأولى في المحكمة الشرعية والتفريق بينه وبين زوجته حول موضوع نبوة آدم، أو مصادرة التفسير ومهاجمته في بدايات الثلاثينات من القرن الماضي.
دراسة كل ذلك في سياق عملية دراسة تاريخنا الثقافي من خلال تجربة أبو زيد في الهداية والعرفان، كنموذج تطبيقي آخر للنهج العلائقي في دراسة الظواهر الفكرية والثقافية في ثقافتنا. وأتمنى أن تكون هذه خطوة آخرى. في طريق وعي حي يحاول إدراك الظواهر في تعقدها وفي تعلقها مع مكوناتها الفاعلة فيها ومع الظواهر الأخرى المؤثرة فيها وفي تشكِلها.
يا مسهل.

جمال عمر





النسخ بين القرآن الكريم وآراء المفسرين

9 06 2022

بقلم: عصام الشريف

العددالأول من مجلة تفكير 10

في الباب الثالث من توتر القرءان برزت فكرة الناسخ والمنسوخ كأحد الحلول التي طرحها المفسرون لرفع التوتر عن القرءان. فهل صلحت هذه الفكرة واستطاعت أن تجاوب عن فهم كثير من الآيات التي يبدو التوتر من معناها؟ ام أنها لم تكن حلا ناجعا؟.
في هذا البحث سنحاول الإجابة عن هذا السؤال.

عصام الشريف

النسخ ” لغويا”..
يعرف ابن منظور في “لسان العرب” النسخ بأنه اكتتاب عن معارضة؛ أو أنه اكتتابك كتابا عن كتاب. حرف بحرف والاستنساخ هو كتب كتابا عن كتاب. ثم ينتقل لتعريف آخر ويقول :النسخ إبطال شيء وإقامة شيئا مكانه؛ ثم يستشهد بالٱية: ما ننسخ من ٱية” ويقول تقول العرب نسخت الشمس الظل يعني إزالته.
من تعريفات المعجم نجد أن استخدام لفظ النسخ هو بمعنى الإثبات وحتى قول ابن منظور نسخت الشمس الظل والمعنى الأقرب هو أن الشمس تثبت الظل وتوجده لا تزيله أو تلغيه؛ وكذا استخدامنا له في لغتنا المتداولة أن النسخ معناه عمل نسخة طبق الأصل من الشيء وليس إزالته. واستشهاد ابن منظور بآية سورة البقرة هو مصادرة على المطلوب. وتأثرا برأي فقهي أو الرأي السائد فقهيا. وليس بحث في المعنى.

ثانيا.. النسخ في القرآن الكريم

وردت كلمة”نسخ” في القرآن الكريم على مستوى الجذر في أربعة مواضع..
ما ننسخ من ٱية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها. سورة البقرة
ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى. سورة الأعراف
“وما أرسلنا من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم”. سورة الحج.
“هذا كتابنا ينطق بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون”. سورة الجاثية.

نلاحظ أن المعنى الواضح في سورة الجاثية هو أن الإنسان يتناول كتابه وان الكتاب كان يتم تسجيله أو يتم عمل نسخة من الأعمال وليس إزالتها. وان هذه النسخة سنتناولها في حياتنا الأخرى.
وفي سورة الحج .. نجد أن نسخ الله لما يلقى الشيطان ليس إزالته ولكن إثباته وعمل نسخ منه والدليل على ذلك أن الآية تقول “ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة….”. فكيف تكون فتنة وهي غير موجودة! ولكن الفهم الأقرب هو أن الله يثبت ما ألقى الشيطان ليكون فتنة للقاسية قلوبهم …
وفي سورة الأعراف .. أخذ الألواح وفي نسختها.. فلو كانت نسختها يعنى إزالتها فكيف أخذها رسول الله موسى؟.. فالمعنى كذلك هو الإثبات وليس الإزالة.
نأتي للآية في سورة البقرة وهى التى استند إليها الفقهاء فى أن معنى النسخ هو الإزالة..
تتكلم الآية عن الآيات التي أنزلها الله فهل تقصد آيات القرءان ام الآيات التي أنزلت مع الرسل عامة؟

لنحاول فهم الآية التي قيل إنها تجيز النسخ في سياق آيات سورة البقرة والآية السابقة لها مباشرة تتحدث عن عدم رغبة أهل الكتاب والمشركين أن ينزل خيرا على غيرهم من الناس.. “ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم”
تأتي الآية في سورة البقرة “ما ننسخ من ٱية.. ” بعد الآية والتي توضح أن نزول الآيات لا يمنعه رغبة أحد وأن استنساخ الآية أي نقل نسخة منها مطابقة لها من كتب أهل الكتاب ممكن. وممكن أيضا أن يُنسى الله الناس الآية. وهنا النسيان بمعنى التجاهل. ويظهر من هذا الفهم الاتساق بين مفردات الآية .. أما النسخ بمعنى نقل نسخة مطابقة. وعكس ذلك هو تجاهلها. ولو كان المعنى هو الإزالة لكانت المفردات تؤدي لنفس المعنى. وبالتالي لا يكون هناك حاجة لتكرار المعنى.
إذاً السؤال الآن لماذا حاول المفسرون والفقهاء إثبات النسخ في القرآن بل وتمادوا في استخدام مفهوم النسخ ليكون هناك مرويات تنسخ آيات القرآن الكريم؟
والسؤال الثاني والأهم هو هل يمكن فهم الآيات التي قيل بنسخها في إطار متسق مع الآيات الأخرى المزعوم أنها ناسخة؟
السؤال الأول ربما يحتاج بحث مطول دون الدخول في أغراض ونيات الآخرين. ولكن بحث عن نتائج ما آلت إليه هذه الفرضية. السؤال الثاني أعتقد أن الآيات يجب فهمها في إطار نسق لا تعارض فيه بناء على آية سورة النساء” أفلا يتدبرون القرءان ولو كان من عند الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا” وأن آيات القرآن تفهم في هذا الإطار دون اللجوء لفكرة الحذف والإلغاء.





البحث عن الحكمة بقلم أحمد يوسف

8 06 2022

ما الحكمة؟


هل هي تلك الملكة المتوجة على قمة هرم المعرفة الإنسانية ؟ حيث تأتي البيانات عند قاعدة الهرم، يليها المعلومات، التي بتجميعها نحصل على المعرفة، وبالتعمق فيها وتأملها، نجني الثمرة والفائدة والمعنى أقصد الحكمة.





أم هى نوع خاص من المعرفة مبثوث فى بعض الأسفار؟ كأمثال سليمان وسفر أيوب ومزامير داوود والسفر اليوناني المسمى بإسم الحكمة، ويتكون من تسعة عشر فصلا، والمنسوب لسليمان، وفيه يتغزل سليمان فى الحكمة كما يتغزل محب فى معشوقته، وفيه: “ولذلك صليت من أجل الفهم فنلته”. ويتفق محتوى كتاب الحكمة مع قول ابن عاشور أن الحكمة كانت تطلق عند العرب على الأقوال التى فيها إيقاظ للنفس ووصاية بالخير وإخبار بتجارب السعادة والشقاوة وكليات جامعة لجماع الآداب.
أم هي الفلسفة؟ كما اعتبرها العديد من المفكرين كابن رشد فى فصل المقال. وهي تلتقي مع الفلسفة فى التساؤل واستخدام المعارف والوسائل المتاحة للوصول إلى إجابات، وأهم وسيلة العقل.

وفى رحلة البحث عن الحكمة نبحث عنها في آخر كتاب للوحى الإلهى. ففى القرآن الكريم الحكمة مؤتاة للأنبياء ضميمة للكتاب وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ لَمَآ ءَاتَيۡتُكُم مِّن كِتَٰبٖ وَحِكۡمَةٖ [آل عمران: 81]

فهل بذلك يمكن اعتبارها وصفا للكتاب؛ حيث يتعامل المؤمنون مع الكتاب أنه منزل من عند الله ويتعامل غير المؤمنين معه على أنه كتاب حكمة؟ أم أنها وصف للكتاب حيث أن الحكمة مبثوثة فى آياته؟ ذَٰلِكَ مِمَّآ أَوۡحَىٰٓ إِلَيۡكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلۡحِكۡمَةِۗ [الإسراء: 39] أم أن وحى الله نوعان: الكتاب ويختص بالعقائد والتشريع، والحكمة تختص بالموعظة والعبرة حِكۡمَةُۢ بَٰلِغَةٞۖ فَمَا تُغۡنِ ٱلنُّذُرُ [القمر: 5] وخص بالذكر في إيتائها آل ابراهيم وداوود وآتاها لقمان وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا لُقۡمَٰنَ ٱلۡحِكۡمَةَ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِلَّهِۚ [لقمان: 12] بل هى رزق يؤتيه الله من يشاء من عباده يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ [البقرة: 269] والله عز وجل يعلمها عيسى وَيُعَلِّمُهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ [آل عمران: 48] كما يستخدم القرآن لفظ التنزيل وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُۚ [النساء: 113]

والحكمة مطلوب تذكرها عند مواجهة أعتى المشكلات الخاصة مثل مشكلة الطلاق وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَا تَتَّخِذُوٓاْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُوٗاۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡحِكۡمَةِ يَعِظُكُم بِهِۦۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ [البقرة: 231] كما أن أزواج النبى مطالبات بتذكرها وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ [الأحزاب: 34] كما أن عيسى استخدمها في بيان بعض ما يختلفون فيه وَلَمَّا جَآءَ عِيسَىٰ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ قَالَ قَدۡ جِئۡتُكُم بِٱلۡحِكۡمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِي تَخۡتَلِفُونَ فِيهِۖ [الزخرف: 63] والنبى مأمور ببتعليمها مع الكتاب أى أنها قابلة للتعلم لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ [آل عمران: 164].

  وباستقراء بعض آراء المفسرين قد نصل إلى بغيتنا ففي معجم ألفاظ القرآن الكريم الصادر عن مجمع اللغة العربية 1988 يذكر للحكمة معنيان الأول: صواب من قول وعمل، وعلم نافع. والمعنى الآخر: عظة وعبرة ويوجد فى حكمة بالغة. 

وذكر ابن جزى فى تفسير يؤتى الحكمة: قيل المعرفة بالقرآن وقيل النبوة وقيل الإصابة فى القول والعمل. وبين الشوكاني أن الحكمة هى العلم، وقيل الفهم، وقيل الإصابة فى القول، وقيل النبوة، وقيل العقل، وقيل الخشية، وقيل الورع، وأصل الحكمة ما يمنع من السفه، وهو كل قبيح. وقد قصرها الشافعى على السنة. وقد أوضح ابن عاشور أن من فسر الحكمة بالسنة فقد فسرها ببعض دلائلها. ونقل القرطبي عن ابن زيد أن الحكمة العقل فى الدين. وبين مقاتل بن سليمان أشهر مفسري التابعين أن تفسير الحكمة في القرآن الكريم على أربعة وجوه: أحدها مواعظ القرآن الكريم وثانيها الحكمة بمعنى الفهم والعلم وثالثها الحكمة بمعنى النبوة ورابعها القرآن الكريم بما فيه من العجائب والأسرار. وأما الرازى فقد ذكر أن الحكمة لا يمكن خروجها عن معنيين هما العلم وفعل الصواب. ويمكن استشراف الآية الكريمة والتى تصف حكمة سليمان فى سورة الأنبياء فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ [الأنبياء: 79] فحكمة سليمان لها علاقة بالفهم والعلم.

   ويضع ماجد الكيلاني تعريفا حداثيا للحكمة  بأنها القدرة على اكتشاف السنن والقوانين التى تنظم ظواهر الكون والحياة ثم تحويل هذه السنن والقوانين إلى تطبيقات عملية فى مختلف ميادين الحياة. فالحكمة تعمل على إشاعة التفكير السنني القانونى بدلا من الحمية والظن والهوى التى ميزت التفكير الجاهلي، وإشاعة العمل المحكم القائم على الإعداد والتخطيط بدل الارتجال. 
     وبالنظر إلى قول ابن زيد أنها العقل فى الدين. ولماذا العقل فى الدين فقط؟ لماذا لا يكون العقل فى كل شئون الحياة؟ وبذلك يكون تعليم الكتاب هو الوحى الإلهى، وتكون الحكمة استخدام العقل. تلك النفحة الإلهية للإنسان، والنعمة الكبرى. ولعل من المناسب استدعاء قول المعري كل عقل نبى.

وتقتضي الحكمة الانفتاح على ما عند المجتمعات الأخرى من علوم ونظم ووسائل ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق الناس بها. ومن الأمثلة على استخدام التفسير السننى فى تفسير الآية الكريمة مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتۡ حَرۡثَ قَوۡمٖ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَأَهۡلَكَتۡهُۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِنۡ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ [آل عمران: 117]
جاء في تفسير الآية في القرطبى قال: أى أنهم ظلموا أنفسهم إذ زرعوا فى غير وقت الزرع. وفى تفسير الآية يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَٱكۡتُبُوهُۚ ٱللَّهَۖ [البقرة: 282] جاء فى تفسير الطبرى قال كعب: هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له؟ قالوا: وكيف يكون ذلك؟ قال: رجل باع شيئا فلم يكتب ولم يشهد، فلما حل ماله جحده صاحبه، فدعا ربه فلم يستجب له؛ لأنه عصى ربه.

  وبالحكمة يمكن حل معضلة توتر القرآن التي أثارها جمال عمر فى كتابه المعنون بهذا الإسم فالحكمة العلم، والحكمة الفهم، والحكمة العقل. فنحن نرجح بالحكمة تنزيه الله وتقديسه فى مجمل القرآن الكريم وله الصفات العلا سبحانه وليس كمثله شىء. وفى الأحكام الفقهية العقل والفهم، أى الحكمة، ترجح التعامل مع مقاصد الشريعة والحكمة تقتضي التركيز على اللباب، وعدم الاقتصار على القشور. 

ولنأخذ على ذلك مثلا فى التعامل مع القرآن الكريم حيث يركز أغلب المسلمين على تعلم أحكام التجويد، وفى رمضان يركزون على عدد مرات ختمه؛ فى حين أن الأساس هو فهم معانيه وتبنى قيمه في الحياة.فلقد فهم بعض المسلمين أن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يقربه شيطان فإذا بهم يشغلون كاسيت يردد ويكرر السورة بالبيت؛ في حين أن سورة البقرة التي في أولها وصف للقرآن أنه هدى للمتقين، وفيها أحكام العبادات كالصيام والإنفاق، وفيها أحكام الأسرة، وفيها بيان للإيمان وابتهال المؤمنين، فهل يقرب الشيطان أحدا يعقل سورة البقرة ويعمل بها فى حياته؟
هناك قول للإمام الشافعي عن سورة العصر أنه لو لم تنزل إلا هى لكفتهم. وهذا فهم عظيم، فهى تشيد بقيمة الإيمان، وقيمة العمل الصالح، وقيمة التواصي بالحق، وقيمة التواصي بالصبر، يضمن تطبيق هذه القيم مجتمعا قويا سديدا. ولو طبقت هذه المعايير على داعش وهي معايير قرآنية لاتضحت منزلتهم على سلم درجات الإيمان.
الحكمة أنثى لجمالها ونضارتها ولعطائها اللامحدود ولقدرتها على ولادة معاني متجددة فتية تناسب العصر ولا تتعارض مع العقل والعلم. والحكمة تكبح جماح العقل المذكر بما له من نزوات فكرية وخيال غير محدود وتجارب جبارة فتأتى الحكمة وتزرع على أرض الواقع شجرة باسقة يستظل بها الإنسان في مسيرته المعرفية الحثيثة تحت شمس الفكر.
الكتب نصوص، والنصوص أجسام، والحكمة روحها، وهناك من يكتفى بحفظ النصوص، كما أن هناك من يأنس بالأرواح، ويسعى لاستكناه سرها.

العدد الأول من مجلة تفكير