فتنة خلق القرآن بقلم هالة عصمت

12 06 2022

العدد الأول من مجلة تفكير 12

من الصعب أن ابدأ الكتابة عن فتنة خلق القرآن دون التطرق الى من كان ورائها الا و هم المعتزلة أحد أشهر الفرق الكلامية أثناء

#مجلة_تفكير1 الحكم العباسي، كما يصعب الكلام عن المعتزلة دون التطرق الى اسباب ظهور الفرق الكلامية بصفة عامة.
ظهرت الفرق الكلامية بالتزامن مع انتشار الاسلام و تجاوز رقعته الجزيرة العربية إلى أماكن أخرى كبلاد فارس والهند والشرق بصفة عامة حيث تنتشر حضارات تقوم على الفلسفة و الماورائيات، و في حين كان العرب يقيمون شأنا كبيرا للغة و الشعر و المعجزة اللغوية القرآنية، فإن هذا العنصر كان يتضاءل في بلاد لا تتكلم العربية و لا تفتن بها، و كما هو معتاد حاولت الحضارات الأخرى إضفاء بعضا من بصماتها على الدين الجديد خاصة مع زيادة حركة الترجمة والتعريب فنشأت الفرق الكلامية التي ظهرت في نهايات عهد علي بن ابي طالب و بداية الدولة الأموية و ان كانت بوادرها قد ظهرت من قبله دون أن تتخذ شكلا رسميا و التي كانت تهدف إلى اتصال الدين بالفلسفة و إيجاد أجوبة فلسفية منطقية للكثير من القضايا و المسائل والتحديات الايمانية وعلم الكلام والذي قال عنه ابن خلدون “هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية” وقيل عنه أيضا “علم يقتدر معه على إثبات الحقائق الدينية بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها” و كان أحد ابرز الفرق الكلامية المعتزلة و قيل انهم لقبوا بهذا الاسم بسبب اعتزال مؤسسها واصل بن عطاء مجلس أستاذه الحسن البصري بسبب الخلاف حول بعض الأحكام الفقهية.
عرف عن المعتزلة تغليبهم العقل على النقل ومن أقوال المعتزلة نفى الصفات ومعنى هذا أن الصفة مجرد قول نطلقه للدلالة على الموصوف، وليس معنى ثابت حقيقى، وكذلك عدم رؤية الله بالأبصار في الآخرة، و ان حكم الفاسق في الدنيا ليس بمؤمن ولا بكافر، و قضية خلق القرآن, لم يكن هناك خلاف بين المعتزلة وخصومهم من الفرق الإسلامية على أن الله تعالى متكلم وأن له كلاماً وأن القرآن كلامه، لكن الخلاف حول معنى الكلام وحقيقة المتكلم وهل القرآن مخلوق حادث أم غير مخلوق. كان ظهور فرقة المعتزلة تأسيسا لما أصبح يسمى بعلم الكلام الذي اختص بدراسة قضايا العقيدة، أما في الواقع فقد مثل المعتزلة بداية التفاعل مع التصور السائد الديني والمعرفي والفكري في البلاد المفتوحة وبداية تعديل تفسير النص المقدس وفق أسس عقلية تحديدا.
لقد كانت مدرستا النقل في الحجاز والعقل في العراق في مقاربة القضايا الفقهية قد تمايزتا لتحددا المقاربتين الأبرز للنص المقدس. وهكذا إلى جانب القضايا السياسية الساخنة المتعلقة بقضية الإمامة وتبرير ظهور الحاكم المطلق برزت قضية هامش ودور العقل في مقاربة النص المقدس وتفسيره.
أراد المعتزلة أن يفسروا النص المقدس بما يحقق انسجامه مع مقتضيات العقل فيما اعتمدت مدرسة أهل الحديث على مبدأ تقديم النقل على العقل. ومن هذه المقدمة وصل المعتزلة إلى نفي صفات الذات الإلهية فأبطلوا أن تشاركه في القدم ومن هذا النفي كان اعتبارهم القرآن مخلوقاً أي محدثاً. ومن هنا بدأت المحنة التي استمرت قرابة 15 عاما بداية من 218 هجرية و حتى 233 هجرية بعد وصول الخليفة المتوكل للحكم .

محنة خلق القرآن
بدأت وقائعها أثناء حكم الخليفة المأمون أحد خلفاء الدولة العباسية ( استخلف في 198 _ 218 هجرية) حين قام الجهم بن صفوان (78- 128هجرية) مؤسس الطائفة الجهمية الأولى التي ظهرت في أواخر عصر التابعين بعد موت عمر بن عبد العزيز سنة 101 هجرية بإطلاق فكرة أن القرآن هو كلام الله المخلوق وأن له بدء وانتهاء كسائر المخلوقات مخالفا بذلك ما كان سائدا بين علماء المسلمين من أن كلام الله يستمد صفاته من الله لذا فهو أزلي أبدي لا بدء له ولا انتهاء، وأصل هذهِ المسألة شبهة قديمة أراد أن يثيرها يوحنا الدمشقي الذي قال (إذا كان القرآن غير مخلوق فهو أزلى وبالمثل فإن النبي عيسى أزلي لأنهُ كلمة الله وإن كان مخلوق فهو منفصل عن قدسية الله مثل باقى المخلوقات) واستطاع المعتزلة الحصول على موافقة المأمون الذي تبنى الفكرة وارغم رجال الدين آنذاك على تقبلها باستثناء بعض العلماء وكان على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل الذي رفض الانصياع للفكرة فما كان من الخليفة المأمون الا أن بعث يستقدمه هو وزميل له هو محمد بن نوح والذي توفي في الطريق قبل الوصول إلى مقر الخليفة.
حاول المأمون أثناء بن حنبل عن موقفه بالتهديد و السجن و لكن بن حنبل ظل رافضا مقاوما ومدافعا بكل ما أوتي من علم ويقين وبعد وفاة المأمون سنة 218 هجرية واصل خليفته المعتصم المحاولة بشكل أشد قسوة وشراسة واستخدام التعذيب والجلد بالسياط حتى وقع الإمام مغشيا عليه و كاد أن يهلك ولكنه برغم ذلك لم يتزحزح عن موقفه وحاول البعض إقناعه باستخدام مذهب التقية كي يحفظ حياته ولكنه رفض لاعتقاده أن التقية لا تستخدم إلا في بلاد يكون الإسلام فيها غريبا أما في ديار الإسلام فلا يجب إلا الجهر بالحق كما أنه لا يجوز للإمام أن يستخدمها والا شاع قول الباطل بين العامة.
بدأ فصل جديد في محنة الإمام بوفاة المعتصم و تولي الخليفة الواثق عام 227 هجرية ولم يتعرض الخليفة الجديد للامام بشر حيث أنه تيقن من ثبات موقفه ولكنه حاول مع باقي العلماء والفقهاء وكتب إلى محمد بن أبي الليث قاضي مصر يطلب منه امتحانهم وعندها فر من استطاع الفرار وامتلأت السجون بمن لم يستطيعوا ومنع أصحاب مالك والشافعي من الجلوس بالمساجد اما الامام بن حنبل فتم تحديد إقامته في بيته حتى مات الواثق و تولي من بعده الخليفة المتوكل عام 232 هجرية الذي خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد وطعن في مسألة خلق القرآن ونهى عن الجدال حول الأمر فانتهت الفتنة وانكشفت الغمة.
و قد تباينت آراء الفرق الإسلامية و ردود أفعالها في مسألة خلق القرآن. فبينما اعتقد أهل السنة والجماعة أن القرآن غير مخلوق وكفر اغلبهم القائل بخلق القرآن بل إن منهم من قال بأن الساكت عن الموضوع او من سمع بهذا و لم يكفر قائله فهو كافر فإن الشيعة قد منعوا الخوض في تلك المسألة و لم يشاركوا برأي فيها، أما الأباضية فبرغم اختلاف علماءهم في المغرب وعمان لم يقم أحدهما بتكفير الآخر حيث تبنى علماء الاباضية في المغرب الرأي القائل بخلق القرآن واختلف علماء عمان فيما بينهم مع ترجيح فكرة رفض خلقه ولكنهم في نهاية الأمر عندما أحسوا بداية اختلاف وانشقاق قرروا الاكتفاء بما كان عليه السلف و الكف عن الكلام في مسألة خلق القرآن أو عدمها.

تعتير المحنة حدثا محيرا في التاريخ الإسلامي وخاصة فيما يتعلق بوقت ظهورها في عهد الخليفة المأمون والذي اشتهر بسعة أفقه وتشجيعه للبحث العلمي, وادعى بعض الباحثين أن السبب هو قوة الصلة بين المأمون والمعتزلة ولكن الكثير من الحقائق تدحض مثل هذا السبب، على سبيل المثال فإن القول بخلق القرآن لم يكن خالصا للمعتزلة بل سبقهم اليه الشيعة و الجهمية، كما ان محكمة المأمون شملت بعضا من علماء المعتزلة مثلما شملت بعضا من علماء السنة. ويعتقد بعض المؤرخين ان السبب الأرجح هو أن المحنة كانت في الغالب محاولة من المأمون لإثبات سيطرته على السلطة الدينية والقانونية على المدى الفقهي والثقافي، وخاصة التحدي لدى الأطراف التقليدية واستمرت تلك النزعة في السيطرة لأسباب سياسية صرفة في عهد المعتصم والواثق حتى تولى الخليفة المتوكل وقرر تغليب صالح الأمة الإسلامية وقام بغلق باب الفتنة وإنهاءها تماما.

#مجلة_تفكير1

العدد الأول من مجلة تفكير


إجراءات

Information

أضف تعليق