د. جابر عصفور في جريدة الحياة محنة أبوزيد 2

24 10 2010

هوامش للكتابة – دلالات محنة نصر أبو زيد – 2
الاربعاء, 21 يوليو 2010
جابر عصفور
Related Nodes: هوامش للكتابة – محنة نصر حامد أبو زيد بدلالاتها -1
اجتمعت لجنة ترقية نصر أبو زيد بتشكيلها الجديد لقراءة التقارير الثلاثة، واختيار التقرير الذي يعبر عن رأي اللجنة النهائي، وكنت أعرف أن تقرير محمود مكي إيجابي، وكذا تقرير عوني

عبدالرؤوف، ولم أكن أثق بعبدالصبور شاهين، ولا حياد موقفه. فقد سبق له مهاجمة نصر علانية، وظل غاضباً لما أخذه عليه من علاقته بشركات توظيف الأموال، ومهادنته الدولة وجماعات إرهاب التأسلم السياسي على السواء. ولكني كنت أمنّي النفس بانتصار العقل والتقاليد الجامعية الأصيلة، وظللت صامتاً الى أن أخذت اللجنة قرارها الفاجع، حيث انحاز أحمد هيكل لزميله عبدالصبور شاهين بحكم عصبية الانتماء الى دار العلوم، وخوفاً من لغة التكفير التي استخدمها زميله والتي لا تليق بتقرير علمي، ولكنها تبعث الخوف في النفوس الضعيفة. واعترض سيد النساج بشدة، على رفض تقريرين لعالمين جليلين بالترقية، هما محمود مكي وعوني عبدالرؤوف، وانقسمت اللجنة على نفسها، بعد انسحاب سيد النساج احتجاجاً، وقبلت تقرير عبدالصبور بفارق صوت واحد، هو صوت شوقي ضيف فيما أظن، وبعض الظن إثم في كل الأحوال. لكن المهم هو الدلالة العامة التي ظلت قائمة، وهي أن اللجنة التي رأسها شوقي ضيف، تلميذ طه حسين الذي أشرف عليه في أطروحاته الجامعية، خانت منهج طه حسين في التوجه العقلي، وبدل أن تواصل طريق المحدثين الذي انطلق منه عميد الأدب العربي، انقلبت على هذا المنهج واختارت طريق القدماء الذين يرفضون إعمال العقل، ويغلقون أبواب التجديد. والمؤسف أن شوقي ضيف الذي صاغ تاريخ الشعر العربي، فنياً، في التحول ما بين أربع صيغ هي الطبع والصنعة ثم التصنيع والتصنع، وقد كان ذلك تصنيفاً جديداً في زمنه، أخذ موقفاً سلبياً من مصطلحات العصر، ورفض أن يكون موقف الإمام الشافعي الفقهي تعبيراً، في التحليل الأخير، عن الأيديولوجيا الوسطية. فضلاً عن المصطلحات الجديدة التي استخدمها نصر مثل الهرمنيوطيقا والسيميوطيقا والخطاب وغيرها من بدع الدراسات الإنسانية الحديثة التي لا ينبغي استخدامها في مجال قديم، لا سبيل الى مثل هذا التجديد فيه. وكانت اللجنة بهذا القرار تنحاز الى أهل النقل لا العقل، وإلى المعادين للاجتهاد من أهل التقليد الذين ناصبوا طه حسين العداء الذي نسيه تلميذ طه حسين رئيس اللجنة. وكنت أرى في الموقف كله شبهاً بالعلاقة التي جمعت بين الإمام محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا الذي أعانه الإمام على إنشاء «المنار».

ولكن بعد أن توفي الإمام عام 1905 انقلب محمد رشيد رضا، تدريجياً، على أفكار الإمام، وإذا به يتحول عبر السنوات الى معادٍ للتجديد، ويصب شواظ هجومه على المجددين في الجامعة وخارجها. ويذكر له التاريخ الفكري الحديث أنه هو الذي قاد الهجوم الكاسح على كتاب الشيخ علي عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم» الذي صدر عام 1925، وظل يقود الحملة التي لم تكن بريئة على الكتاب، الى أن سحب الأزهر العالمية من علي عبدالرازق، وترتب على ذلك طرد الرجل من منصبه القضائي. وهو الأمر الذي أدى الى فض التحالف بين الأحرار الدستوريين وحزب الاتحاد الذي صنعه رجل الملك فؤاد، زيور باشا، إرضاء وتحقيقاً لديكتاتورية سيده. ولم يكتفِ محمد رشيد رضا بذلك، فقد ظلت مجلته «المنار» تحمل لواء العداء للاتجاهات الجديدة التي تبناها الأساتذة المحدثون في الجامعة، أمثال لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وطه حسين. ولم يكن قلم محمد رشيد رضا بعيداً عن المحنة التي حدثت لطه حسين بسبب كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي صدر في آذار (مارس) 1926، فقد شن على الكتاب أعنف هجوم ولم يخلُ من نزعة التكفير، ولولا تغير المناخ السياسي، لكان مصير طه حسين أشبه بمصير صديقه.

كان هذا ما يدور في ذهني، للأسف، وأنا أتابع في صمت الأسى موقف أستاذي شوقي ضيف الذي نشأت على احترامه وتقديره وتبجيله، وهو جدير بذلك فعلاً بما أنجزه من أكمل تاريخ للأدب العربي الى اليوم، بعيداً عن اختلاف الآراء والتوجهات.

وكانت ملاحظتي الثانية على تقرير عبدالصبور شاهين الذي تبنته اللجنة، للأسف، أنه تقرير لا علاقة له بالعلم الرصين، وإنما هو تقرير انفعالي خطابي تكفيري، يستخدم عبارات لا يليق استخدامها في مجال العلم والخطاب الجامعي بوجه عام. ومن ذلك إشارة التقرير الى أن نصر وضع نفسه مرصاداً لكل مقولات الخطاب الديني، حتى لو كلفه ذلك إنكار البديهيات، أو إنكار ما علم من الدين بالضرورة. وأضيف الى ذلك صفات مثل كلام أشبه بالإلحاد، وقسْ على ذلك من الكلام الذي يعف قلمي عن ذكره. فالأهم هو أن لغة التكفير المستخدمة، في هذا التقرير، سرعان ما شاعت على الألسنة المعادية للدولة المدنية، وظلت ملازمة لخطاب التكفير الذي كان يرتفع صوته، في موازاة ارتفاع حدة خطاب التأسلم السياسي الذي كان يشيع خارج الجامعة. وكان معنى ذلك أن رئيس لجنة الترقية، تلميذ طه حسين، سمح لخطاب التكفير الذي كان لا يزال خارج الجامعة أن يدخلها، ولا يفارقها الى اليوم للأسف. فما أكثر ما حدث بعد ذلك من اتهامات اعتقادية دينية لباحثين اجترأوا على الاجتهاد في مجالات العلوم الإنسانية، خصوصاً في مجال نقد الخطابات الاجتماعية السائدة، ومنها خطاب تحرير المرأة، ومواجهة النظرة الدونية إليها. والخطورة أن شيوع هذا الخطاب التكفيري وانتقاله من خارج أسوار الجامعة الى داخلها أحدثا كارثة كبرى في الفكر الجامعي. فقد سجن هذا الفكر في مدار مغلق، وجعل الأساتذة يؤثرون السلامة، ويخافون الاجتهاد، ويصنعون لأنفسهم، من أنفسهم، رقباء على ما يفكرون فيه، أو يكتبون عنه. وكانت النتيجة الكارثة أن ذبلت روح الاجتهاد في الجامعة، ولم تخرج الجامعة المصرية وحدها من دائرة الجامعات ذات القيمة، بل خرجت كل الجامعات العربية تماماً من مقياس أفضل خمسمئة جامعة في العالم.

وهناك ملاحظـــــة أخرى على تقرير عبدالصبور شاهين الذي قبلته لجنة برئاسة تلميذ طه حسين، وهي ملاحظة تسجل انحراف اللجان العلمية، وانحراف التقييم الجامعي بوجه عام. فالأصل في التقييم الجامعي السليم هو الاجتهاد، والجدة، والاختلاف المقترن بأصالة المنهج بعيداً عن الموافقة على النتائج أو الاختلاف معها. فلا اجتهاد من دون اختلاف، وإلا فقد الاجتهاد معناه، ولا جدة إلا بالخروج على السائد، وإلا ما كانت جدة، ولا اختلاف. ومن ثم لا اجتهاد إلا مع إقرار مبدأ حق الخطأ، فالمعرفة الإنسانية لا تتقدم بالإصابة في الاجتهادات وحدها، وإنما تتقدم بالقدر نفسه بالأخطاء. ولذلك حرصت الحضارة الإسلامية في عصور ازدهارها على ما أطلق عليه طه حسين، في مقال شهير نشره عام 1955، حق الخطأ الذي يعني إصابة المجتهد في كل الأحوال، حتى في الخطأ الذي يستحق عليه أجراً يضاعف في حالة الإصابة وأصل الإثابة ومبررها تشجيع إعمال العقل، والمخالفة في الاجتهاد، وإلا ما تراكم العلم، ولا تقدّمت المعرفة العلمية. ويترتب على ذلك أن التقييــــم العلمي الصحيح ليس الأصل فيه هو الاتفاق بيـــن مــــن يقوم بالتحكيم ومن يتــــم تحكيم إنتاجه، وإنما مراعاة قيم المنهجية والاجتهاد والإضافة، بعيداً عن الاتفاق أو الاختلاف. وقد ترتب على قبول تقرير عبدالصبور شاهين الذي لا أزال أراه وصمة عار في تاريخ الجامعة وهو منشور مع تقرير قسم اللغة العربية في تفنيده علمياً في كتاب نصر «التفكير في زمن التكفير» الذي طبع أكثر من مرة. وأضيف الى ذلك ما هو متضمن في السياق من جانب ثأر شخصي، ينطوي عليه التقرير الذي استغله كاتبه للثأر من نصر الذي أشار إليه، في أحد الكتب، بوصفه مستشاراً لإحدى شركات توظيف الأموال التي نهبت ثروات المسلمين المخدوعين فيها.

ولذلك كان من الطبيعي أن يرفض قسم اللغة العربية تقرير عبدالصبور، وأن أصوغ بمساعدة نصر رحمه الله، ومحمود مكي أطال الله في عمره، تقريراً علمياً مضاداً، وكنت حريصاً على إعادة التقاليد العلمية الى نصابها. ووافق القسم بإجماع أصواته في الجلسة الطارئة التي دعوت إليها، ولم يحضرها شوقي ضيف، رئيس اللجنة. لكن حضرها أعضاء اللجنة الذين هم أعضاء في القسم، واضطروا الى التوقيع على تقرير عبدالصبور شاهين، بعد التصويت السري في اللجنة. لكنهم وقعوا في القسم بلا تردد، كما لو كانوا يشعرون بالذنب، ولم يشذ أحد عن إجماع الآراء أو يخرج عليه، في هذه الجلسة التاريخية التي استحضر فيها الجميع تقاليد الأساتذة العظام: طه حسين وأحمد أمين وخليل يحيى نامي وأمين الخولي ومحمد كامل حسين وعبدالعزيز الأهواني وسهير القلماوي وغيرهم من الأساتذة الراحلين الذين بقيت تقاليدهم الخلاقة داخلنا، وأرجو أن لا تفارقنا.

وكان لرصانة تقرير القسم وعلميته أكبر الأثر في قبول مجلس الكلية له، فقام بتشكيل لجنة برئاسة أستاذنا مصطفى سويف أطال الله عمره، وكتبت اللجنة بدورها تقريراً تم عرضه على مجلس الكلية في العشرين من شهر شباط (فبراير) عام 1993، فوافق عليه المجلس بالإجماع كما حدث في مجلس القسم وانتقل الأمر الى مجلس الجامعة الذي كنا نرجو أن يكون موقفه داعماً موقفَ مجلس الكلية. لكن للأسف قبل رئيس الجامعة أن يقع تحت ضغط جماعة التأسلم السياسي في الجامعة، وأن يقبل مشورتهم التي دعمت موقف عبدالصبور شاهين لتوافق المصالح والاتجاهات. وكانت النتيجة أن وافق مجلس الجامعة، تحت ضغط الرئيس ونائبه على قراره بقبول تقرير لجنة الترقيات عبدالصبور شاهين الذي لم يقرأه أحد، ولا تقرير مجلس القسم المضاد، أو مجلس الكلية. ولم يكن رئيس الجامعة أو نائبه يدركان أنهما بتشجيع الوصول الى هذه النتيجة والموافقة عليها، بل الفرحة بها، يسلمان مفاتيح جامعة القاهرة وعقلها الى تيار التأسلم السياسي، ذلك التيار الذي كان تقرير عبدالصبور شاهين علامة عليه، وكان ذلك في الثامن عشر من آذار 1993. وإلى اليوم، لا أعرف كيف قبل الضمير العلمي لمأمون سلامة رئيس الجامعة القانوني ونائبه محمد الجوهري عالم الاجتماع تقريراً لغته غير علمية، تتراوح بين عبارات مثل «كتيب ذي وزن خفيف» أو «كتاب يهجم على الغيب بأسلوب غريب» أو بحث هو «جدلية تضرب في جدلية لتخرج بجدلية تلد جدلية، تحمل في أحشائها جنيناً جدلياً متجادلاً بذاته مع ذاته». وأن يتدخل التقرير في عقيدة الباحث التي لا يعلمها إلا الله بما يخرجه من دينه، ويتهمه بالكفر الصريح.

كان قبول هذا التقرير صدمة لنا في الجامعة التي قال سعد زغلول أن دينها العلم، وأن رئيسها الأول كان لطفي السيد، وأنه عندما قامت عاصفة تكفير طه حسين، عام 1926، اجتمع مجلس الجامعة في العام نفسه، مؤكداً حق طه حسين في الاجتهاد، وأن المجلس جميعه يؤيده في هذا الحق، ولكن كان الزمن قد تغير، وأَفَلَت شمس العقلانية الجامعية وغابت، ومحا كل آثارها تحالف السادات مع الإخوان المسلمين مع انقلابه على الناصرية التي استبقى منها نزعتها التسلطية. وكانت مصر التي استقال رئيس جامعتها لنقل أستاذ واحد منها، لم تعد مصر التي فرح رئيس جامعتها عندما قرأ قرار فصل ما يزيد على ستين من أساتذتها عام 1980.

وكانت مرارة نصر لا تختلف عن مرارتنا نحن الذين أحببناه، فأعلن رفضه التقدم الى هذه اللجنة مرة أخرى. ويبدو أن أستاذنا شوقي ضيف شعر بالذنب، فظل يلح على نصر في التقدم للترقية مرة أخرى، لكنّ نصر ظل على رفضه الى أن تغيرت اللجنة جذرياً، فقبل التقدم. ولم يكن بين الأعضاء الجدد أمثال عبدالصبور شاهين، فانتهت اللجنة الى استحقاق نصر الترقية بجدارة، ووافق مجلس القسم، وبعده مجلس الكلية، ثم مجلس الجامعة برئاسة مفيد شهاب في يوم الأربعاء أول حزيران (يونيو) عام 1995، ونال نصر الترقية التي كان يستحقها منذ عامين، لكن بعد أن تحول نتاجه الفكري الى موضوع إشكالي يشغل الرأي العام، وهدفاً تنوشه سهام الأصوليين والمتطرفين دينياً، فتصاعدت حلقات المحنة التي تكاثفت على مدى عامين.


إجراءات

Information

أضف تعليق